الرئيسية / آراء ومقالات / أدب وفكر / فكر / من الثقافة إلى صناعة الثقافة

من الثقافة إلى صناعة الثقافة

عزيز أزغاي

يمكن اعتبار سؤال الثقافة أو السؤال الثقافي من الأسئلة التي لم تكفّ لحظة عن توليد النقاش حولها وإثارة الأسئلة المتحولة التي كانت، في كل مرة، تحاول أن تجد توليفاً متطوراً يجيب عن مختلف التحديات والتحولات التي يعرفها العالم، وذلك بالنظر إلى الأهمية التي تحتلها الثقافة في المجتمعات الإنسانية، ونظراً كذلك لكون ما هو ثقافي يعتبر عنصراً مؤثراً ومكيفاً بل وموجهاً أحياناً لطموحات وانتظارات باقي الحقول الأخرى، سواء كانت سياسية، أو اقتصادية أو اجتماعية. ولعل هذه الدينامية هي ما ساهم في تعدُّد التعريفات التي حاولت أن تحصر مفهوم الثقافة في صيغة متفق حولها على صعيد مختلف الأنساق الحضارية والإنسانية.

 

  • في معنى الثقافة:

يطلعنا معجم لاروس الصغير في تعريفه لكلمة ” ثقافة ” على أنها تعني مجموع البنيات الاجتماعية والمظاهر الفنية، والدينية، والثقافية التي تميز مجموعة، أو مجتمعاً مقابل آخر. كما أنها تعني أيضاً مجموع القناعات المشتركة، سواء في طريقة التفكير أو الفعل التي توجه، بطريقة واعية أو غير واعية، ردَّ فعل شخص أو جماعة (1).

 

ويذهب الأكاديمي الفرنسي بيير إيمانويل Pierre Emanuel إلى تعريف الثقافة بكون هذا المفهوم كان دائماً يدل على عملية تخصيب الأرض. أما على المستوى المجازي فالثقافة تعني عملية إخصاب الذهن. إلا أن هذا المفهوم الأخير – حسب الباحث دائماً – يعتبر استعمالاً متأخراً في اللغة، وخاصة الفرنسية، لكون الكلمة تعتبر حديثة (2).

 

ومع بداية القرن العشرين، عرفت هذه الكلمة توسعاً وانتشاراً، حتى صار من الصعب الوقوف على تعريف واحد يحيط بها. ولتسهيل هذا الأمر، يقترح بيير إيمانويل ثلاثة تعريفات للكلمة:

  • المعنى الإنساني: ويقصد به، من جهة، التنمية المتوازنة للقدرات الفردية. ومن جهة أخرى، مجموع المعارف العامة التي يحصلها الفرد، وكذا الإبداعات الشخصية التي يقوم بإنجازها. كما أن ثقافة بلد ما، أو قرن ما وما إلى ذلك..، تتكون من مجموع الإبداعات الذهنية التي ينتجها الإنسان، ويعتبر استمرارها نوعاً من التاريخ.

 

  • المعنى الاجتماعي: وتدل على الحضارة بمفهومها العام، حيث تشكل الثقافة، في هذا الفهم، الصيغ التعبيرية التي يقدم بها المجتمع نفسه في مختلف الميادين وعبر تنوع تركيبته البشرية. ومن خلال هذا المعنى، تعتبر الثقافة مرآة نشطة، تسمح للمجتمع، عبر مختلف مكوناته، بالطموح إلى تحقيق معرفة جيدة بنفسه. وعلى هذا الأساس، تصبح الثقافة مسؤولية مدنية. من هنا، فإن كل الأنشطة التي تندرج في هذا السياق تصبح ذات بعد سوسيو– ثقافي، على عكس باقي الأنشطة التي تندرج تحت غطاء الإبداع الفردي أو الممارسة الخاصة.

 

  • المعنى الإيديولوجي: وهو التعريف الثالث الذي يدرجه الباحث، حيث تمثل الإيديولوجيا نوعاً من الرؤية العلمية الشمولية للإنسان، التي تعتبر الآلة السياسية بنيتها الهدف. كما أن الثقافة، بهذا المعنى هي ترجمة عبر كلمات شخصية وفردية، تبعاً لقواعد مقننة بصرامة. (3).

 

وإذن، فهذه المفاهيم الثلاثة تؤشر، في تكاملها، على مفهوم ” السياسة الثقافية ” كمفهوم حديث، يهدف إلى جعل الثقافة أحد عناصر سياسة الدولة، مثلما هو الشأن بالنسبة للتعليم أو الدفاع أو الصحة (4). وعلى هذا الأساس، تعمل الدولة من خلال هذا المفهوم على بلورة تصورها، الذي ينبغي أن يعكس متطلبات الأفراد داخل المجتمع وارتباط ذلك بالهوية والخصوصية واللغة والتاريخ المشترك، وكلها مفاهيم تتدخل أو تتقاطع مع ما هو ثقافي بالمعنى الذي يستحضره بيير إيمانويل.

 

أما الباحث جون مولينو Jean Molino – الأستاذ بجامعة بروفانس، إيكس سان بروفانس – فيرى أن كلمة ” الثقافة ” تتضمن التعليم، الذي يربط بين مشكل اللغة ووسائل التواصل ثم الإبداع الأدبي، والتي يمكن أن تضاف إليها الثقافة الشعبية وثقافة الأقليات. فالثقافة، في نظره، ليست فقط لغة وإبداعاً، إنها – إلى جانب ذلك – رؤية للعالم، كما أنها تشكل مجموع المعاني التي تنظم أشكال الحياة لدى فئة اجتماعية معينة. إنها أيضاً، مجموع الاستراتيجيات الرمزية التي توجد رهن إشارة الأفراد داخل مجتمع معين، والتي تشكل ” الوضعية الرمزية ” لأية طائفة (5).

 

ولعل أقدم التعريفات، حسب الباحث علي سيد الصاوي، وأكثرها ذيوعاً حتى الآن، لقيمتها التاريخية، تعريف إدوارد تايلور E. Taylor ، الذي قدمه في أواخر القرن 19 في كتابه عن ” الثقافة البدائية “، والذي يذهب فيه إلى أن الثقافة هي: ” كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في مجتمع ” (6).

 

إننا أمام تعريفات متعددة لكلمة واحدة، لدرجة أصبح معها من قبيل الخدعة أن نحصرها في مقاربة جردية (7)، لكن القاسم المشترك الذي يلحم بينها هو أنها تركز على الإنسان كجوهر للفعل الثقافي، كما تركز أيضاً على كل ما يرتبط به من علاقات وروابط سياسية، واجتماعية، وحضارية وتاريخية، وأيضاً سلوكات وطرق تفكير وفعل، تنحو جميعها إلى خلق نوع من التميز ومن الخصوصية، في علاقة الأفراد فيما بينهم وفي علاقة المجموعات والمجتمعات بعضها ببعض.

غير أن هذه الكلمة، التي جعلت منها الدراسات النقدية مفهوماً مستقلاً بذاته، سرعان ما ستشهد تطوراً مطرداً نتيجة التطور الذي حصل في سوق ابتكار الوسائط الجديدة في عالم الإبداع والإنتاج وتسويق المنتوج الثقافي، بالشكل الذي أصبحت تفرزه آلة العولمة كأنساق جديدة للتعامل على صعيد الاقتصاد العالمي. حيث انتقل الحديث والتداول من مجرد الإحاطة بالخصوصيات التي تنفرد بها جماعة معينة أو مجتمعاً محدداً، إلى الحديث عن الثقافة باعتبارها حقلاً سياسياً، وباعتبارها أيضاً وأساساً صناعة ما فتئت تخضع، هي الأخرى، لشروط ومتطلبات العرض والطلب. من هنا بدأت تتبلور مفاهيم جديدة في المقاربة الثقافية، من قبيل ” اقتصاد الثقافة ” ثم بعد ذلك مفهوم ” الصناعات الثقافية “، وصولاً إلى ما بات يعرف اليوم في المجتمعات المتقدمة بـ ” الصناعات الإبداعية “.

 

هوامش:

1 – Le Petit Larousse – Grand Format, 1996 – p : 298

2 – Pierre Emanuel, Culture Noblesse du Monde, Stock, 1980. Cité par Jean-Michel DJIAN , La politique Culturelle, le Monde – éditions, 1996 ; réédition, 1997- p : 17.

3 – op. cit

4 – op. cit

5 – Jean Molino, La culture comme enjeu. Notes critiques sur la culture au Maghreb . Cité dans : Nouveaux enjeux culturels au Maghreb – Etudes de l’Annuaire de l’Afrique du Nord / CRESM – Editions du Centre National de la Recherche Scientifique – Paris : 1986 – p : 31.

6 – E.Taylor, Primative Culture. London – John Murray 1871

وورد هذا التعريف في سلسلة عالم المعرفة ” نظرية الثقافة “، تأليف مجموعة من الكتاب – ت. على سيد الصاوي . مراجعة وتقديم: الفاروق زكي يونس – عدد 223 – الكويت 1997 ، ص: 9 .

7 – المغرب الممكن، إسهام في النقاش العام من أجل طموح مشترك: الأبعاد الثقافية، الفنية والروحية – الإنتاجات الثقافية – تقرير الخمسينية – دار النشر المغربية، الدار البيضاء 2006 – ص: 6 .

 

عن harka

شاهد أيضاً

النكبة نتيجة سقوط الأندلس/ باسل الأعرج

كتب الشهيد المثقف المشتبك باسل الأعرج “هناك متلازمة غريبة جدا يحملها الشباب العربي هذه الايام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

var x = document.getElementById("audio"); x.play();