الرئيسية / آراء ومقالات / الجيش المصري والنخبة وعامل الجغرافيا

الجيش المصري والنخبة وعامل الجغرافيا

أحمد صبري / باحث مصري.
يجنح الكثير من المحللين والباحثين السياسيين في العالم العربي إلى السقوط في خطأ تجاهل عامل الجغرافيا في تحليلهم لسلوك النظم السياسية والجماهير كذلك ، وبالتالي محاولة تشكيل الواقع بما يتلائم مع قواعد النظريات وليس العكس .
في الشأن المصري ، يبدي هؤلاء الباحثين والمحللين ، حتى المصريين منهم ، علامات الاستفهام حول التشبث الواضح من الجماهير بالدور القيادي للجيش في الحياة السياسية والعامة ، وعدم الاعتناء بالمطالبات النخبوية التقليدية بالحريات والديموقراطية السياسية ، وربما عدم التعاطف معها في بعض الأحيان .

إن هذا السلوك الجماهيري المصري ليس مستغرباً على الإطلاق في حال وضع في الاعتبار حقيقة خصوصية الكيان وتاريخه الضارب في القدم كأقدم وحدة سياسية ، والتي تتميز كذلك بكونها ممتدة بنفس المساحة من الأراضي طوال تاريخها .

لقدم حظيت مصر بجغرافيا منبسطة من الجنوب وحتى الشمال ، حيث لا توجد عوائق تمنع التواصل بين أقاليمها ، بالإضافة إلى أراض خصبة على طول وادي النيل تروى بنظام فيضان نهري دوري سنوي يتفق مع دورة المناخ الفصلي السنوية بحيث يلائم الاثنان معاً دورة النمو الفصلي للحبوب خاصة القمح ، وبحسب إليوت سميث فإن مصر هي الوحيدة في العالم كله التي تنفرد بهذا النظام في الري ولا تتشابه فيه مع المناطق الحضارية الأخرى ، وهو ما اقتضى وجود سلطة مركزية قوية يمكنها تنظيم الأوضاع ووسائل الري والزراعة بين الفلاحين المصريين بقدر معقول من العدالة والحياد بما يقتضيه بقاء المجتمع ، وجيش قوي يمكنه تأمين هذا الواقع[1] .

لقد أدت هذه العوامل الجغرافية إلى اتسام الشخصية المصرية في تاريخها ، بشكل عام ، بالانكفاء للداخل ، وبالرغم من أن الحضارة المصرية كانت الحضارة الأقوى في بعض المراحل ، فإن الجيش المصري لم يعبر الحدود إلا من أجل تأديب المعتدين ، وحتى في عصر الإمبراطورية الحديثة أخذت السيطرة المصرية على الأقاليم الشامية الشرقية والأفريقية الغربية والجنوبية صيغة التحالفات أكثر من صيغة الاحتلال ، بما يعني أن الجيش المصري وقياداته لم يكونا طرفاً في أي توسعات تستهدف تحقيق مكاسب لمصلحة الأسرة المالكة أو هذه القيادات ؛ ومن هنا يؤمن الإنسان المصري التقليدي بهذه الحقيقة التاريخية الراسخة : أن الدولة المصرية مهمتها تنظيم أوضاعه المعيشية ، والجيش المصري مهمته الحفاظ على سلامة هذه الأوضاع من الاعتداءات الخارجية . وطوال التاريخ المصري كان قيام الدولة بأداء مهامها المفترضة كفيل بإرضاء هذه الجماهير والحفاظ على وحدة الكيان السياسي ، بينما كان تراخيها عن هذه المهام يؤدي في بعض المراحل إلى الثورة الجماهيرية والتفتت السياسي ، وهنا كانت الجماهير المصرية تستدعي الجيش ، بصفته المؤسسة الحامية لمصالحها بشكل مباشر ، للتدخل وتولي المسئولية عبر التحالف مع النخبة المدنية من رجال دين وكتاب ، كما نعرف من مراحل الاضطرابات في التاريخ والتي تلت الدولتين القديمة والوسطى ، وما بعد الأزمة الدينية في عهد أخناتون والتي أجبرت قائد الجيش حورمحب على إزاحة الأسرة الحاكمة وتولى السلطة بنفسه .

وحتى مع تأسيس مصر الحديثة على يد محمد علي وابنه إبراهيم باشا والتي كان من أهم خطواتها تمصير الجيش ، فقد استمر دوره مرتبطاً دائماً في ذهن المصري بضرورة حماية مصالحه الحياتية ، وهو ما يفسر تفاعل المصريين مع الجيش عندما قرر التدخل في الحياة السياسية لتحجيم سلطة الخديو توفيق المتعاطفة مع الإنجليز ، بالتحالف مع النخبة المصرية الناهضة في هذه الفترة والتي مثلها الشيخ محمد عبده والكاتب عبدالله النديم .

إن الحقائق التاريخية سالفة الذكر تشير إلى أسباب الثورة الجماهيرية التي اشتعلت ضد مبارك في 25 يناير سنة 2011 ، فمنذ عام 2005 بدأت الدولة المصرية في رفع يدها تدريجياً عن حياة المصريين تاركة المجال لمجموعة من الرأسماليين المرتبطين بأسرة مبارك فيما سمي في الأوساط المعارضة (رأسمالية المحاسيب) والذين سعوا بمنتهى التطرف إلى السيطرة على الثروة المصرية ، ولم ينتبه نظام مبارك إلى تصاعد السخط الجماهيري والذي امتد إلى فئات لم تكن يوماً ثورية وأضطرت تحت ضغط المعيشة إلى اللجوء للتظاهر والاعتصام من أجل تحقيق مطالبها مثل موظفي الضرائب العقارية في ديسمبر 2008 ويناير 2009 .

إن المشكلة الأساسية إذن ليست في موقف الجيش ولا الجماهير المصرية ، فكل منهم لم يفعل جديداً بحسب تاريخه ومواقفه التقليدية التي فرضتها عوامل الجغرافيا والسكان ، وإنما المشكلة في النخبة المصرية بتنوعاتها والتي كانت دائماً في المراحل التاريخية تتضامن مع الجيش لإعادة الدولة المصرية إلى دورها التاريخي المعروف ، وهو التحالف الذي أنتج دائماً حالة حضارية متقدمة للغاية ، بالرغم من أن الظروف المحيطة كانت تؤدي لاغتيالها في النهاية .

هذا التراجع من النخبة المصرية عن القيام بدورها التاريخي يعود إلى ما عانته من تشوه واضح بداية من حكم السادات ، والذي استخدم القمع الأمني في مواجهتها ، بالاضافة لما أدت إليه سياسات الانفتاح الاقتصادي ورحلات العمل في الخليج من انتشار للابتذال والتطرف الديني والتجريف الفكري والحضاري للشعب المصري ، وفي عهد مبارك كان الأمر أكثر سوءاً حيث حققت حكوماته نجاحات بارزة في محاولاتها لتدجين النخبة ، عبر تجاوز ممارسات القمع الأمني إلى وسائل أكثر سوءاً كتحريض التيارات الدينية السلفية على القيام بقمع من نوع آخر عبر قضايا الحسبة التي تم رفعها على عدد منهم نتيجة لأفكارهم ، لعل أشهرها قضية تكفير الراحل نصر حامد أبو زيد وتطليقه من زوجته . وبقدر ما أدت هذه الممارسات ونجاح السلطة في تدجين النخبة التقليدية لعزلها عن الواقع الجماهيري ، فإن الجيل الجديد من هذه النخب يعاني من تغريبية واضحة وعدم وعي بطبيعة الواقع المصري ولا مطالبه الحياتية ، مما أفقده القدرة على قيادة الجماهير بعد نجاح ثورة 25 يناير ، عندما تابعت الجماهير هذا الشباب المثقف وهو يسعى لتحجيم دور الجيش التاريخي في الحياة المصرية .

إن الشيء المؤكد والذي لا ترغب النخبة المصرية في الاعتراف به ، أن الجماهير المصرية لم تخرج إلى الشوارع سواء في 25 يناير أو حتى 30 يونيو دعماً لمطالبها المرفهة بقدر ما خرجت تطالب بعودة الدولة إلى القيام بدورها التاريخي في حياة الإنسان المصري ، ومع اشتعال الأوضاع كان المصريون ينتظرون موقف الجيش (الممثل لهذه الدولة) والمطالب دائماً ومنذ تاريخهم القديم بحماية مصالحهم الحياتية ، وهو الدور الذي فرضته عوامل الجغرافيا غير المتغيرة ، والتي لا تعيها النخبة حتى الآن .

[1] نؤكد هنا على أهمية كتاب العالم الجغرافي المصري جمال حمدان المعنون ” شخصية مصر ” وهو من أربع أجزاء ، ويعد من أهم الكتب التي تعرف بما أدت إليها الجغرافيا المصرية من آثار إجتماعية وحضارية . أما سير أليوت سميث فهو استاذ تشريح في القصر العيني بالقاهرة ولد في 1871 وتوفي في 1937 باستراليا ، وقد اهتم بالحضارة المصرية القديمة ويعتبر من أعلام المدرسة الانتشارية الذين برهنوا على انتشار الثقافة المصرية لمناطق متعددة من العالم .
عن مدونة بهزاد
٢١ أيار ٢٠١٥

عن harka

شاهد أيضاً

دوغين والجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة.

يعد ألكسندر دوغين من أهم أعضاء الفريق الاستراتيجي الذي يحيط بالرئيس الروسي، بوتين، كما يعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

var x = document.getElementById("audio"); x.play();