الرئيسية / آراء ومقالات / في الضروري من الثقافة

في الضروري من الثقافة

تمهيد: يعرف فوكوياما صاحب الكتاب الشهير نهاية التاريخ بناء الدولة على أنه تقوية العمل المؤسسي فيها بحيث يكون قادراً على تحقيق الإكتفاء الذاتي والبقاء معاً، وهو عكس الحاصل في تحجيم دور الدولة من خلال الليبراتارية بموجتيها الليبرالية والنيوليبرالية منذ فترة التحولات الريغانية والتاتشرية باتجاه تحجيم دور الدولة في إدارة الثروات والرفاه الإجتماعي، بروز مفهوم الدولة الفاشلة لم يعد يخضع حسب المنظرين السياسين الجدد إلى معايير ثابتة رسختها الدول الغربية بنموذجها الاقتصادي والرعائي، بل حتى أن هناك تشكيكاً بمفهوم الدولة الناجحة من خلال نشأتها إن كان هناك ضرورة لإبرازها كدولة انتخابية أم لا، نور الدين يطرح في مقاله الآتي هذا المفهوم بشيء من التفصيل عبر توجيه الأسئلة واجتراح الأجوبة بقدر اجتهاده.

إذا صدّقنا الإحصاءات حول نسبة الراغبين في الهجرة من البلاد العربية، فنحن أمام سؤال جوهريّ: ما الذي يطلبه الراغب في الهجرة ولا يجده في وطنه؟
ستقفز الأجوبة إلى أذهاننا:
– عيش كريم.
– حقوق إنسان.
– حرية.
… إلخ
أنا أزعم أن هذه الإجابات لن تخرج عن: أريد أن أكون مواطنا في دولة “ناجحة”.
أما المقصود بنجاح الدولة فهو الأمر الذي يحتاج نقاشا.
ماذا نقصد بنجاح الدولة؟
ماذا نعني بالدولة من الأصل؟
هنا دعني أبدأ من مكان مألوف لك: السّلَع. (يقصد بها البضائع والخدمات والمنتجات)
تقسّم السلع في العالم إلى سلع خاصة وسلع مجتمعية وسلع عامة.
أعدك أنني سأغادر موضوع السلع هذا سريعا.
السلعة الخاصة هي ما تستطيع شراءه والانتفاع به وحدك، مثل: حذاء رياضيّ.
السلعة المجتمعية هي ما تستطيع شراءه، لكن يجب أن تكون ضمن مجتمع ما ينتفع من هذه السلعة، مثل: مدرسة خاصة (حيث يجب أن يكون غيرك من الطلاب في المدرسة).
السلعة العامة هي ما يوفر للمجتمع كله معا، ولا تستطيع شراءه من السوق، لكن هيئة ما توفره للمجتمع لقاء الضرائب مثلا. مثل: جيش يحمي البلاد، هيئات قانونية، تعليم مجاني، علاج مجاني.
حسن، لنعد إلى شرح ماهية الدولة، وماهية نجاحها:
الدولة: هيئة يوكل لها المجتمع، قسرا أو عن رضا، مهمة توفير السلع العامة.
بالتأكيد لم يعد ثمة ضرورة لشرح ماهية الدولة الناجحة، فهو في النهاية يقاس بمدى قدرتها على توفير السلع العامة.
يعني نستطيع تصنيف نجاح الدولة من خلال مصفوفة ضخمة من نجاحات صغيرة في أمور تخص السلع العامة: قدرتها على التنظيم، نزاهة القضاء، التعليم المجاني، الأمن الداخلي، الأمن من الغزو والهيمنة… إلخ
هنا يصعد فورا سؤال:
ما الذي يقف بين مجتمعاتنا العربية وبين أن تشكل دولا ناجحة؟
تستطيع أن تتساءل باستنكار: ومن قال لك أن دولنا ليست دولا ناجحة!
هنا سأقول لك: قالت لي ذلك نسبة الراغبين في الهجرة منها.
نسبة الراغبين في الهجرة قد تزيد لأسباب أخرى بالتأكيد، مثل أن يخدع الإعلام الناس فيصور لهم الحياة في المهجر على أنها الجنة، لكنني سأتجاوز عن هذا الجدل، إذ إن أمامنا من الشواهد ما لا يمكن تفصيله لطوله: نسب الفقر، غياب المساواة، غياب الحرية بأنواعها، الهيمنة الخارجية… إلخ والقائمة طويلة حقا.
إذًا تسامح معي، ولنعد إلى السؤال، لكن دعنا نحوّره قليلا: ما الذي وقف حتى الآن بين مجتمعاتنا العربية وبين أن تشكل دولا ناجحة؟
الإسلامي يجيب: لأننا لم نتبع شرع الله.
الشيوعي يجيب: الإمبريالية.
القومي يجيب: التجزئة.
الليبرالي يجيب: الديكاتورية.
وكلها أجوبة عامة، لا يهم ما تختاره بينها، لأنك في الحقيقة تكون قفزت على جواب لا تفهم حيثيات الوصول له، يعني كمن يغش الإجابة النهائية من ورقة زميلته، وهو عاجز عن كتابة الحل، بغض النظر عن جودة إجابة زميلته بالطبع.
علينا أولا أن نقف على المسألة من عدة جهات، فنراها من مناظير مختلفة لنعرف ماهيتها، مثل الذي يدور حول جهاز ليعرف مهمته.
+ أولا من جهة التاريخ:
ثمة خطان أساسيان، الخط العالمي السائد، والخط المحلي.
خط التاريخ المحلي يقول: نحن العرب لم نكن أمة موحدة في “دولة” حتى الآن، ولذلك فالمشاريع التي تتطلب طبيعتها أن تقوم بها دولة لم تحدث، مثل: خلق هوية موحّدة لسكان المنطقة التي تسمى “منطقة عربية”، توحيد معايير اللغة العربية، رواية خاصة بنا عن تاريخنا، جعل المنطقة خالصة لسكانها بعيدا عن سيادة تركية… إلخ.
خط التاريخ العالمي يقول: مكاننا بجانب أوروبا فرض علينا أن نكون دائما في مواجهة مع خصم\جار قوي، يبني صحته على مرضنا، وثرواته على فقرنا. وقد ظهرت الثورة الصناعية في أوروبا وبالآتي كنا الحلقة الأضعف في المنطقة.
++ ثانيا من جهة الاقتصاد:
حتى تكون الدولة عفية (تتمتع بالعافية كمفهوم شامل للغنى والقدرة على الحماية… إلخ) لا بدّ أن تكون قادرة على تحقيق اكتفاء، بل وفائض أيضا.
وشروط الاقتصاد بعد الثورة الصناعية ليست كما قبلها، فنحن إذا أردنا إنتاج شيء نحتاج إلى بناء مصنع، ولكي نغطي تكفلة بناء المصنع لا بد أن نصنع كميات ضخمة من هذا المنتج، وإذا أنتجناها لا بدّ أن نجد لها سوقا تستهلكها. هنا تدخل السياسة والقوة العسكرية فورا إلى النقاش، لأن تأمين السوق، وطرق التجارة، وتوحيد البلاد في سبيل خلق الأسواق أمر أساسيّ. (هذا هو السبب في توحيد ألمانيا، فمقاطعة بروسيا المنتجة اضطرت لغزو وتوحيد بقية الدوقيات والمقاطعات الألمانية لكي تجد سوقا).
الفكرة أن هذا لم يحدث عندنا، فقد كان الباب العالي يسرق الصانعين المهرة من كل البلاد التي تسيطر عليها تركيا. ثم إن وجود الإمبراطوريات (الدول التي تحكم أماكن خارج حدودها وتستغلها) الأوروبية بالقرب منا جعلهم يتمكنون من تقسيمنا بطريقة تمنع نشوء دولة مركزية قوية.
+++ ثالثا من جهة السياسة والقوة العسكرية:
لتأمين منطقة ما من الغزو أو الهجرات الكبيرة، تحتاج إلى تضاريس صعبة (لاسيما قديما)، وتحتاج إلى هوية مشتركة للمجتمع بحيث يرى الغريب غريبا، وتحتاج إلى تنظيم يتمثل في دولة.
الوطن العربي ممتد على منطقة مفتوحة، نشأت فيها حواضر عديدة، وهذه الحواضر ساهمت في نشوء هويات فرعية، هذه الحواضر كان بينها صمغ يمسكها ويتحكم بطرق التجارة، وهو عنصر أصيل من سكان المنطقة كلها، ألا وهم (البدو).
طبيعة حياة البدو جعلت ولاءهم للحواضر محدودا، وفوق ذلك فإن مقاومة حاضرة “عربية” لسيادة حاضرة “عربية” أخرى عليها ساهم في إضعاف أي دولة مركزية.
نعم نعم، فهمنا أن وضع سكان هذه المنطقة معقد جدا، وفهمنا ما الذي وقف بينها وبين تكوين دولة ناجحة حتى الآن، لكن ما الذي يقف بينها وبين النجاح الآن؟

ما الذي يقف بين المجتمعات العربية وبين إقامتها دولا ناجحة؟
بعد طول انتظار، نأتي للسؤال الأكثر تعقيدا حتى الآن، وإجابته كالآتي:
حتى يفعل مجتمع شيئا معقدا كإقامة دولة عفيّة، فهذا يحتاج منه إلى درجة عالية من القصدية، أي أن يقصد أن يفعل ذلك. والعرب كمجتمعات لا يقصدون هذا فعلا.
أقول “فعلا” لأنه ثمة عرب يقصدون هذا، لكنهم ليسوا كل المجتمع، ولا حتى جزءا حاسم التأثير فيه.
لماذا لا يقصدون ذلك؟
+ أولا: المجتمعات العربية غالبا مفككة، وبالآتي لا يمكنها أن تقصد شيئا، بمعنى أننا يندر أن نفكر بصورة جماعية بطريقة فعالة.
أما التفكيك فهو: تجزئة إلى دويلات، انقسامات داخل المجتمع الواحد لهويات فرعية، انقسامات داخل الهويات الفرعية، شعور الفرد بعدم الانتماء إلى جماعة.
++ ثانيا: عدم توفر الشروط الملائمة للفعل ذاته، وبالآتي تأجيل التفكير العميق فيه.
يعني أن أبناء الدول العربية يعرفون، ولو بصورة شعورية، أن إقامة دولة ناجحة يعني مجابهة كثير من المصاعب، والصبر لتوفير كل الشروط اللازمة أو توفرها من خلال تدافع القوى في العالم، وهذا ما لا طاقة للمجتمعات به، فالهجرة أسهل.
+++ ثالثا: الارتباك السياسي والفكري الذي يعصف بالمجتمعات العربية يجعلها أقل تفكيرا في المستقبل، وفي الشأن العام.
لو عرفت أن قنبلة ستنفجر في شركتك خلال ثلاث ساعات فإنك قد تساعد غيرك، لكن عندما تعرف أن القنبلة ستنفجر خلال دقيقة فأنت ستخرج راكضا.
المسألة ليست الهجرة فقط، فثمة هروب معنوي إلى الحلول السحرية السريعة:
الإسلامي إلى الجنة، أو الخلافة، أو الصبر. (حسب نوعية إسلامه).
الشيوعي إلى الأممية.
القومي إلى حلم الوحدة.
الليبرالي إلى الديموقراطية الاقتراعية.
ابن مؤسسات الدولة القائمة إلى باب رزقه.
الفرد الذي يعرف أنه يملك شيئا تطلبه مجتمعات ناجزة النهضة إلى الهجرة.
++++ رابعا: الفئة الحاكمة في كل قطر مستفيدة من الوضع القائم كفئة، حتى لو كان مجتمعها متضررا.
ولأن الطريق صعب، فعصفور باليد خير من عشرة على الشجرة.

حتى لو وصل المجتمع إلى الحالة التي يقصد فيها ذلك، فأمامنا تعقيدات كثيرة، منها الآتية:
أ. بنية النظام العالمي تجاريا وعسكريا وطبيعة التحالفات والتخالفات كلها لا تحبذ نشوء دولة عربية ناجحة. (النقطة الآتية ستشرح لماذا)
ب. الدولة العربية حتى تكون ناجحة لا بد أن تحتوي على مقومات الدولة من مقومات الإنتاج إلى مقومات الاستهلاك وتصدير الفائض، بمعنى أن الدول العربية عندما قسمت على هذه الصورة، كان الذي قسمها حريصا على افتقارها لواحد من عناصر النهضة أو أكثر. ولأن ذلك حصل قبل اكتشاف النفط وقبل تضاعف عدد السكان فالأمر ليس بهذه الحتمية. وهذا التقسيم لم يشمل كل الدول العربية. المهم أن دولة عربية عفية (يجب أن تضم أكثر من دولة عربية واحدة من الموجودات الآن) ستؤثر كثيرا في الساحة العالمية، بسبب موقع الوطن العربي على خطوط التجارة، وثرواته، وتأثيره الثقافي على مجتمعات كثيرة من خلال الديانات.
ج. ثمة احتلال يحظى بتأييد من قوى امبراطورية (هي ذاتها إمبريالية لكننا نحب تعقيد المصطلحات) في العالم سيرى في أي خطوة عربية نحو الوحدة خطرا محدقا.
د. ثمة خلافات حول الأساس الفكري الذي يمكن أن يشكل أرضية للوحدة، بما في ذلك أناس لن يترددوا باستخدام الإرهاب للتأثير.
هـ. البيئة العربية مفتوحة على بعضها ثقافيا إلى درجة أن انتشار دعوى في بلد مجاور سيشكل انتشارا لها في بلدك، وهذا يوسع رقعة الشطرنج ويزيد الأمر تعقيدا، فأي مجتمع عربي يبدأ بالتفكير في إقامة دولة عفية عليه أن يواجه التشتيت من المجتمعات العربية المحيطة، ويدير اللعبة في إطار واسع جدا.
إلخ…
قائمة طويلة من التحديات! كيف يمكننا أن ننتصر عليها؟
ليس عندي حل سحري، ولكني سأمر على أهم الشروط الواجب توفرها، والتي لا يعني توفرها أننا سنقفز فورا إلى دولة ناجحة.
ما هي شروط قيام الدولة العفيّة؟ أو ما هي شروط قيام الدولة الجاذبة \ الناجحة؟
للتذكير نحن لا نتحدث عن كيف نصل لتلك الدولة، نحن نتحدث عن أشياء أساسية يجب أن تتحقق حتى يكون الوصول إلى دولة عفيّة ممكنا، بغض النظر عن صعوبته. بكلمات أخرى، نحن نتحدث عن أشياء يؤدي وجودها \ انعدامها إلى استحالة الوصول لدولة عربية عفيّة. وهي قائمة مرتّبة بطريقة اعتباطية (لا معنى للترتيب).
+ أولا: التواصل البيني (التواصل بين أجزاء المجتمع)
جودة التواصل البيني في مجتمع ما، أي تحسّن قدرة المجتمع على تبادل الأفكار والمشاعر والمعلومات بين مركباته وفئاته وأفراده بتنوعهم، شرط أساسيّ في قدرة المجتمع على إقامة دولة معافاة.
وهذا التواصل يحتاج: أرضية معرفية مشتركة، قيما مشتركة، امتلاك أدوات التواصل من لغة أو سواها، إرادة إقامة هذا التواصل من الجميع.
انظر حولك الآن وستجد أن بعض أجزاء المجتمع أقرب إلى ما يحدث في نيويورك مما يحدث في الشارع الذي يسكنون فيه.
++ ثانيا: التوجّه العام نحو رفع الظلم
الشعور بالظلم وحده لا يكفي لقيام ثورات بنّاءة، أو لحصول انعطافات حقيقية في مسيرة الدولة يفرضها المجتمع، فنحن نحتاج إلى: وجود الظلم، الشعور به، الوعي بأسبابه، تأسيس أداة عامة (دولة، حزب منظم واسع الانتشار) قادرة على التصدي له، أو السيطرة على هذه الأداة إن وجدت لتعمل لصالح هذا المشروع.
أما خروج الجماهير للشارع فهو أمر أثبت أنه لا يمكن أن يتعدّى أثر الشخوص، وأن من يمتلك الأداة العامة يحكم في النهاية.
+++ ثالثا: شاهدية الحوار
أستخدم مصطلح “شاهدية” بديلا للمصطلح المظلوم “علمانية”، فهو في الأصل يعني الابتعاد عن الغيبيات في إدارة الدولة. أما إذا أضيف للحوار “علمانية الحوار” فيعني: أن يكون الحوار الذي يحاول حل المشكلات بعيدا عن الأمور الغيبية ومحصورا في العالم العلماني المشهود.
وهذا بطبيعة الحال يستلزم الرد على الطرح الديني ردّا قاطعا، وإعادة الدين إلى صورته الأصلية.
++++ رابعا: ظروف عالمية مؤاتية
وجود قطبين أو أكثر للعالم، الشيء الذي يشكل شقوقا في النظام العالمي، يساعد المجتمع على التسلق على صخرة هذا النظام من شقوقها، أمّا العالم الذي يحكمه طرف واحد فيبدو الوضع معه مغلقا، إذ من المستحيل أن يحارب مجتمع غير ناجز النهضة دولا إمبراطورية وينتصر عليها دون تكاليف باهظة.
+++++ خامسا: نعومة الانتقال إلى النظام الجديد
لا يمكن أن تجد “ثورة” مجتمعية واحدة وصلت إلى الفوضى ونتج عنها نظام دولة عفيّة، فالثورة الفرنسية أتت بنابليون، والإسبانية بفرانكو، وهكذا حتى ينتهي التاريخ، لأن المجتمع إذا وصل إلى العنف والفوضى فإنه يعقد صفقة ضمنية بموالاة أي جبّار يخلّصه من الفوضى.
هذه النعومة في الانتقال تتطلب اختراق النظام القائم، وتغييره ضمن لحظة مواتية محليا وعالميا.
++++++ سادسا: وجود مشروع عام
كان قانون نشوء الحضارة قبل اكتشاف حضارة الإنكا والمايا يقول: تنشأ الحضارة عند وجود عدوّ مشترك، لكنه في أحدث نسخه يشترط وجود مشروع عام مشترك. فإذا كنت تظنّ أن سبب بناء الأهرامات هو صناعة المقابر ففكر مرة أخرى، أنت تتحدث عن أطول حضارة مستمرة في التاريخ، لا بدّ أن لديها حكمةً ما منها.
+++++++ سابعا: أن يحدث كل هذا على أرض تمتلك مقومات الدولة الناجحة.
المقومات: الماء الكافي، الطاقة الكافية، الأيدي العاملة الكافية، العمالة الماهرة الكافية، وجود موانئ لتصدير الإنتاج، وجود تربة خصبة تكفي لإطعام الشعب من الإنتاج الزراعي… إلخ
وهذا يعني أن هذه الأحداث إذا حدثت في دولة عربية صغيرة واحدة أو على رقعة صغيرة من الوطن العربي فلن تقوم الدولة العربية إلا لتكون أداة في يد قوة عظمى في الإقليم التي هي فيه.

بهذا نتوصل إلى “عقد اجتماعيّ حقيقيّ”، وإلى “أداة عامة” توفّر السلع العامة للناس، وبالآتي إلى دولة محترمة لا تحاول نسبة كبيرة من سكانها الهجرة منها!
أنت تقول الآن: لكن هذا مستحيل! أنت تشترط شروطا تعجيزية للتغيير. ما العمل؟
أقول: قد يكون، ولكن تصور التغيير قبل تحقيق واحد من هذه الشروط، وستجد أن الوضع القائم غالبا أفضل.
لم يكن صعبا علينا أن نتنبأ بنشوء داعش أو سواها، لأن عددا من هذه الشروط لم يكن متحققا.
ولأن بعض الشروط متعلقة بالزمن، وبتدافع الأمم، فنحن معنيون بالشروط التي نستطيع تحقيقها نحن، ولذلك فإجابتنا على سؤال: ما العمل؟ محدودة بهذه الحدود. أي أن السؤال يصبح: ماذا يمكننا أن نفعل حتى يحين وقت التغيير؟

ماذا علينا أن نفعل حتى تحين فرصة إقامة دولة عربية عفيّة؟
لا شكّ أن ما علينا أن نفعله مرتبط ارتباطا وثيقا بالشروط الواجب تحققها لكي تقوم الدولة العربيّة العفية، وهذا يعني أنّ علينا أن نساعد على توفير شروط إقامة هذه الدولة.
إذًا، نستطيع تقسيم الإجابة إلى أقسام، بطريقة تغطي كل بند من البنود الواردة في الحلقة 4 من هذه السلسلة.
قبل الخوض في هذا التقسيم يجب أن نقول شيئا عن فكرة التقسيم، وفكرة الترتيب الاعتباطي (الذي لا يحتوي على أولويات) الذي عرضت فيه الشروط في الحلقة 4، وعن أولويات العمل.
التقسيم مساعد على التفكير لا أكثر…
هل تلاحظ أنك عندما تقرأ نصا عربيا يظهر المعنى في عقلك مرة واحدة؟ أي أنه لا يظهر مجزأً أو مقسّما حسب ترتيب الجملة، وهذا الشيء واضح في كل اللغات المُعربة (اللغات المعربة هي اللغات التي تضع علامات توضح دور المفردة في الجملة ولا تكون العلامة الوحيدة هي مكان الكلمة في ترتيب الجملة)، وكل اللغات التي تؤخر الفعل حتى نهاية الجملة كاليابانية والتركية.
الفقرة السابقة ليست من خارج النص. الفكرة منها هي أن ترتيب الأولويات سيتأخر إلى حين معرفة كل العناصر، وتفكيكها، وفهمها، ومعرفة كل الخطوات. حينها فقط، نستطيع ترتيب أولويات العمل. لذلك، حتى ذلك الوقت سنستخدم الترتيب الاعتباطي الذي ذكرنا فيه الشروط في الحلقة السابقة.
أولا: ماذا علينا أن نفعل لكي نزيد قدرة مجتمعاتنا على التواصل البيني؟
علينا أن نفهم التواصل البيني أكثر حتى نستطيع أن نجيب… ابقَ معي، واحتمل الإطالة لو سمحت.
لكي نفهم التواصل البيني علينا أن نفهم مجاله، أي ما هي الفئات التي يجب أن يكون بينها تواصل. وعلينا أن نفهم ما الذي يجعل التواصل أجود. وما الذي يشوش على هذا التواصل من الخارج.
+ مجال التواصل:
الأفراد في المجتمع، الدوائر والفئات الاجتماعية المختلفة داخل المجتمع الواحد، المجتمعات المختلفة داخل الدولة القطرية الواحدة، الدول القطرية المختلفة داخل الوطن العربي.
+ كيف يكون التواصل أجود؟
مركبّات جودة التواصل:
معرفة الجمهور المخاطب على عدة مستويات (المستوى المعرفي، المستوى الشعوري، المستوى الأداتي) ، معرفة شروط الخطاب التي يفرضها الجمهور، معرفة شروط الخطاب التي يفرضها المحتوى، معرفة ما الذي يريده صاحب الخطاب منه.
+ ما هي المشوّشات الخارجية؟
لأن الساحة مفتوحة للجميع، فإن كل خطاب آخر قد يكون مشوّشا على خطابك ما دام يتوجّه للجمهور ذاته، ويدور حول الموضوع نفسه. يضاف إلى ذلك كل طريقة يمكن فيها تشويه خطابك ليعني شيئا آخر، إما بتأويله أو باجتزائه أو بسحبه إلى دائرة غير دائرته.
لذلك فإن دولا ككوريا الشمالية والصين تمنع الوسائط الغربية من الوصول إلى جماهيرها.

الآن حان وقت إجابة سؤال: ماذا علينا أن نفعل لكي نزيد قدرة مجتمعاتنا على التواصل البيني؟
1- دراسة اللغة العربية بطريقة تضمن طلاقة التعبير والتلقّي. هذا يحدث عبر النحو الوظيفيّ، وقد عكفت شخصيا على دراسة الأمر، ووصلت إلى كون الطريقة التي تدرّس فيها اللغة العربية طريقة ظالمة، وقد وجدت كما وجد غيري طرائق أكثر فعالية تعتمد على اللهجات الدارجة. عليك أن تبحث عنها وأن تمارسها، وهذا سيزيل كثيرا من حواجز اللهجات بين العرب.
2- زيادة قدرة الأفراد على التعاطف. نحن نربّي أبناءً عاجزين عن التعاطف، وهذا خطير جدا جدا. أمّا كيف تزيد قدرتك على التعاطف، وقدرة الأطفال الواقعين تحت رعايتك عليه. هذا أمر يحتاج منك بحثا، وتدريبا.
3- زيادة معرفتك في البيئات المحيطة بك (أسرة، حي، مدينة، جوار، بلد عربي آخر) على الصعد جميعها (معرفيا، شعوريا، أداتيا…إلخ)، وزيادة معرفة الآخرين بها. مثلا: تستطيع أن تعرف شيئا جديدا حول بيئة ما، وأن تكتب عنه. (شرط التعاطف يفرض عليك أن يكون أمرا إيجابيا).
4- عليك فهم أدوات الاتصال المختلفة جيدا، والتمرّس فيها: صناعة فيديو، صناعة أغنية، كتابة قصيدة، كتابة مقال، كتابة كوميدية، رسم كاريكاتوري، تلخيص…إلخ (لن تستطيع احترافها كلها بالطبع، لكنك ستزيد قدرتك على فهمها على الأقل، وستحترف شيئا منها أو أكثر.)
5- زيادة قدرتك على التأويل، ومعرفة احتمالاته، وبالآتي زيادة قدرتك على التلقّي، وزيادة قدرتك على منع التشويش، وزيادة قدرتك على التشويش على الخطاب المعادي.
6- عليك زيادة قدرتك على إنشاء خطاب مناسب، مناسب لهدفك منه (عليك أن تعرف هدفك من التخاطب)، ومناسب للجمهور المستهدف من جهة صفاته جميعها.

لو انشغل أهل الفكر من العرب بهذا، فلم نكن لنقرأ بيانا ذا لغة تعود لخمسينات القرن المنصرم في أيامنا هذه.
ولو عرف أهل الفكر أهمية هذا لكانوا تمسّكوا بالقطاع الشبابيّ الذي يتقن لغة العصر، بدلا من البحث عن أي شيء يزهّدهم بالإبقاء عليهم في أطرهم.
إذًا، أول ما عليك فعله هو زيادة قدرتك على التواصل، وتنويع وسائطه، وتنويع جمهوره لتدريب نفسك.
وسنتطرق في الحلقات القادمة لبقية الأجزاء من الإجابة الطويلة على سؤال: ماذا علينا أن نفعل حتى تحين فرصة إقامة دولة عربية عفيّة؟

حول إجابة سؤال: ماذا نفعل كي نؤسس لشاهدية الحوار حتى تحين فرصة إقامة دولة عربية معافاة؟
لنتخيل أن ما قدّمناه حول النقطتين السابقتين لهذه (التواصل، العمل الجماعي) كان ناجعا، وسنجد أننا بحاجة للحوار كثيرا.
مشكلة الحوار في الوطن العربي مشكلة عويصة، وليست هنا أتحدث مثل الليبراليين، لأن الأمر ليس تقبل آخر أو تسامح أو سواه… المشكلة يمكن وصفها بالنقاط الآتية:
(سنتبع كل نقطة بما يجب علينا أن نفعله بشأنها)
– وجهات النظر المستندة إلى الغيب.
وهذه يمكن تقسيمها إلى عدد من النقاط:
+ الناس تناقشك بناء على منطلقاتها الغيبية لا على منطلقاتك، فهي لا تعترف بمنطلقات أخرى غيرها.
هنا علينا أن نعيد تأويل الطرح الإسلامي بصورة تربطه بالواقع، بعيدا عن الغيبيات التي هي “بنى فوقية” “نزلت” أو “صيغت” لتؤسس للبنى التحتية. هذا ما أسس له كثير منهم مدوّنة نور الدين على مدى السنوات الماضية.
وعلينا أيضا أن نكون حاذقين في طرق الجدال والحوار لنحيّد أي طرح غيبي، دون أن يحسب ردّنا على أنه وجهة نظر في الغيب. (إتقانك لفنون التواصل وعلم الاجتماع سيضمن هذا)
وعلينا أن نكون حريصين على تحديد المطلب من الحوار قبل البدء به، وإرجاع المحاور له دائما.
وعلينا أن ننتهج الطريقة السقراطية في صياغة الأسئلة. (اقرأ محاورات أفلاطون)
+ الناس لا تعلم بوجود طروحات مختلفة داخل وجهة النظر الغيبية الواحدة. (أتباع الدين الواحد)
هنا علينا أن نحذر من أي طرح غيبي يتنشر بطريقة هستيرية، وهذا يشمل شرائظ الوهابيين، وشذرات الصوفية… وحذرنا يكون بتسليط الضوء تعلما وتعليما على وجهات النظر الأخرى، ليكون واضحا للمتدين أنه لا يمتلك الحقيقة حتى من وجهة نظر دينية.
وعلينا أن نشجع على وجود الطروحات جميعها في المناهج المدرسية، وإن كان على سبيل الذكر. (المناهج في بعض البلاد تستبعد شرائح من البلد نفسه من أي ذكر داخلها).
+ الناس تفارق الأخلاقيات التي تشجع عليها الطروحات الغيبية في سبيل الدفاع عنها.
علينا أن نعرف هذه الأعراف الأخلاقية جيدا، ونحاول إلزام الناس بها، وتذكيرهم بالأسس الأخلاقية للحوار حسب ما يدعونه من حق أساسه الغيب.
– ذهنية التحليل والتحريم، أو البحث عن الأحكام الثنائية. إذ إن الطرح الغيبي يؤسس لهذه الطريقة في التفكير.
علينا لقاء هذا أن نبتعد عن إصدار الأحكام أثناء الحوار قدر الإمكان، حتى نقتل المسألة بحثا، فيكون حكمنا مبنيا على مصفوفة من المعارف، لا مجرد قول لمختص ما.
– انتقال عدوى الجمود إلى المذاهب الفكرية الشاهدية (التي لا تبنى على الغيب)
هنا علينا أن نكون حازمين مع أنفسنا ومن يوافقوننا، فنفرض عليهم بناء حججهم بطريقة برهانية لا استنادا على أقوال فلان وفلان.
إن الحوار الناجح هو الذي تخرج منه بأسئلة أكثر، وبمعلومات أكثر، وليس بأكبر عدد من الأحكام.
كان يكفي أن أقول: علينا أن نشيع المنطق غير الصوري، ومنهج الاستبعاد في الاستدلال، وأنماط المغالطات المنطقية، لكنني أردت أن أبيّن أثر هذا على الحوار، فلا يكون كلامي مجرد وصاية على العقول. لكنك الآن تعرف أين تبحث.

حول سؤال: ماذا نفعل لكي نساعد على تكوّن ظرف عالمي يتيح إقامة دولة عربية عفيّة؟
الفكرة هنا أن وجود جهة وحيدة مهيمنة على العالم يجعل حدوث اختراق في الوضع القائم أصعب، فكلما تعددت الإرادات الفاعلة على الساحة الدولية، وازداد عدد اللاعبين، وارتفعت حدة التنافس، صار للإرادة العربية وزن أكبر.
هذا يشمل إرادة القيادات العربية، حتى إنني أزعم أن حسني مبارك لم يكن ليحكم بالطريقة ذاتها لو كان العالم متعدد الأقطاب، لكن الأفق الجمعي المغلق يفتح الباب للفردية والأنانية.
تخيل قائدا جشعا يحكم دولة عربية مؤثرة في عالم متعدد الأقطاب، ألن تكون له أطماع في جعل دولته أقوى وأكبر!
الآن ماذا علينا أن نفعل حتى يزيد عدد اللاعبين على الساحة الدولية؟
أولا لنتفق أن ما نفعله هامشي إلى حد بعيد، لكن ماذا لو استطعنا أن نفعل الآتي؟
+ تأييد شعبي لكل دولة أو زعيم يعارض المشروع الأمريكي بوضوح.
+ اختيار السلع الآتية من دولة منافسة أو مناهضة أو على الأقل خارجة عن الحلف الأمريكي.
+ استخدام المصطلحات التي تخترق الصواب السياسي الأمريكي.
+ الضغط على حكوماتنا لتقيم علاقات طبيعية مع الدول المنافسة لأمريكا.
+ نشر تناقضات المجتمع الأمريكي والسياسات هناك.
+ نشر المنتجات الثقافية الآتية من تلك الدول وتعلم لغاتها.
+ الاصطفاف السياسي المناهض للموقف الأمريكي.
+ التعامل بعملات أخرى غير الدولار والعملات التابعة له.
+ كسر الاحتكار لبعض السلع التي تحتكرها أمريكا بإنتاجها محليا أو باستهلاك بدائل محلية.
هذا وما من قبيله يضعف سيطرة القطب الأمريكي على العالم، وبالآتي يزيد من فرصة ظرف دولي مخالف. بالإضافة إلى أنه من واجبنا أن نبقى على صلة بأحدث العلوم، إذ إن العلم يغير وجه العالم بطريقة قد تفتح مجالا لنا.

في الإجابة عن سؤال: كيف نضمن نعومة التغيير، وعدم حدوث فوضى، عندما تحين فرصة إقامة دولة عربية عفيّة؟
أستطيع أن أجيب سريعا: الاختراقية. لكن هذه الإجابة لا تعني شيئا بدون شرح.
إذا كنت تعرف عن تاريخ الشخصيات الوطنية والرموز من الأجيال السابقة، ستعرف حينها أن المفهوم بسيط، ولا يحتاج اسما مستقلا، هو في الحقيقة الطريقة الطبيعية للتغيير.
دعونا نتساءل مثلا: في أي جيش خدم الضباط الأحرار قبل ثورة 52 في مصر؟ ألم تكن خدمتهم داخل جيش البلاد التي كانوا يرونها محتلة ومهيمن عليها ومملوكة لعائلة! أين خدم عبد الكريم قاسم؟ أين خدم وصفي التل؟ أين خدم حافظ الأسد؟ وهكذا… هل تعلم أن كثيرا من رموز الثورة الجزائرية خدموا في الفيلق الأفريقي في الجيش الفرنسي؟
إن الذي يريد أن يقوم بالتغيير يجب أن يفارق هوس التطهّر، ويجب أن يخترق المؤسسات التي يريد تغيير طريقة عملها. أما من يقف بعيدا وينتقد، ويعلن استياءه وشجبه واستنكاره، فهو في النهاية يقف بعيدا.
قد يقبل هذا “التطهّر” من بعض المفكرين والأدباء، أو المنظرين الثوريين، لكنه لا يقبل من شخص عمليّ، سيفعل شيئا على الأرض. الذين يعملون يتّسخون. هذه قاعدة.
معرفة هذا تفرض علينا درجة من “التسامح” مع “الضرورات”، فلا يجوز أن يقوم حزب شيوعيّ بتسقيط عضو فيه وتخوينه لأنه أخذ قرضا بنكيّا. هو فعل ذلك من باب المرونة، ليستطيع الحياة في مجتمع رأسماليّ.
وهكذا فليس كل من يعمل في نظام دولة ترفضه يعدّ من “أزلام النظام” ومن “فلول الحزب المحلول” وسوى ذلك من تصنيفات شهدناها خلال ما سمّي بالربيع العربيّ.
على الحركة الراغبة بالتغيير أن تفهم وجود هؤلاء، فلا تعمل بطريقة طاردة لهم، بل عليها أن تحاول كسبهم.
فضلا عن وجود هذا النوع من الراغبين في التغيير الذين يعملون من الداخل، يجب علينا أن نمتلك “كتلة حرجة” من المنتظمين في “الأداة العام” التي نأمل أن تقوم بالتغيير، قبل بدء الصدام مع الوضع القائم.
أما نقيض هذا فيدعى بـ”ـالقصووية”، وهي أن تطلب في السياسة أقصاها هكذا دون وجود المقدمات العملية لطلبك.
القصووية مدمّرة حتى عندما تطبقها دولة قوية. انظر مثلا إلى العراق في عهد صدّام حسين، فإن كان بعض العرب أحبّوه بسبب أنه “لم يناور”، فهو قد خسر كل حلفائه بسبب ذلك، وبقي معه من كانوا يخشون منه أو من نفوذه. فما بالك بقصوويّ لا يمتلك خمسين عضو في حركته؟! هذا انتحار وليس عملا سياسيا! وليس نضالا ولا طهارة ولا أيا من تلك الأسماء الجميلة.
إذا كنت تفهم ذلك فعليك الآتي:
+ إدانة الفوضويين وإغلاق الطريق عليهم حتى يرتدعوا عن انفعالاتهم العاطفية التي لا تغني شيئا.
+ المناداة باستراتيجيات بعيدة المدى.
+ عدم متابعة أي محلل من نوعية “الغرير” (وهو المحلل الذي يخرج بكلام حماسيّ ويخيف الناس.) المفضلة لدى القنوات الفضائية.
+ نقد أي مظهر من مظاهر القصووية.
+ ممارسة ما تراه ضروريا لحياتك دون أن تقع في تناقض مع مبادئك ما أمكن. (ضع مئة خط تحت ما أمكن).
+ نقد السلوكات وعدم نقد الأشخاص.
+ الحرص على كسب الأصدقاء وتقليل عدد الأعداء وتركيزهم في جهة محددة.
+ معرفة أن خدمة القطر العربي الواحد هي خدمة للدولة العربية الآتية. (طالما لم تنطوِ الخدمة على ما يناقض تلك الدولة المنشودة).
+ إذا كنت داخل حزب أو جماعة عليك أن تحضّر “خارطة قوّة” تشمل كل ما يتميز به كل عضو، وكل نصير، من مهارة أو نفوذ أو سلطة.
+ تحدث مع أجهزة دولتك في نقاط التقائك معهم. (يعني حتى لو كنت تعارض التطبيع في بلد مطبّع، فلا تتردد في إبلاغ أجهزة بلدك الأمنية عن أي جماعة إرهابية.)
+ اجعل الجميع يرون حسنات وجودك، فلا يشنون حربا شعواء عليك.
+ الحرب الشعواء لها وقتها ويجب أن تكون أنت من يعلنها، لا من تعلن عليه.
لو عملت الأحزاب النهضوية بهذه الطريقة، ما كنّا لنرى حالة الضعف المريعة التي نراها اليوم.
تعلم من درس الحركات اليسارية والقومية في بلادنا، وكيف انكفأت بسبب الممارسات القصووية.

في الإجابة عن سؤال: ماذا نفعل كي نبني توجها عربيا عاما، أو مشروعا عربيا عامّا، يساهم في التأسيس لإقامة دولة عربية معافاة؟
لدى قراءة كتاب (لماذا تتحارب الأمم؟) وجدت أن المصالح لا تكفي لاشتعال الحروب، ولا بدّ أن يقوم الساسة باستغلال ظاهرة يسميها الكتاب “التحلّق حول العَلَم” لقيام حرب ما. لا أتحدث هنا عن الحرب بوصفها المشروع العام الوحيد الممكن، لكنني أتحدث عنها بوصفها مشروعا عاما فقط.
لا بدّ أن يمكن صياغة المشروع بلغة بسيطة حتى يسهل تعميمه، فالجماهير لا تتبادل النظريات المعقدة، ولا تفهم خارطة المصالح المتشابكة والمركبة، تماما كما تصاغ الحرب: علينا أن نقضي على أعدائنا لأوغاد!
لكن كيف نصيغ مشروعا عاما غير الحرب بلغة بسيطة؟
هنا يأتي دور الرموز، فالعامة تفهم الرموز جيدا، تماما كما فهم المصريون القدماء “الهرم” بصفته رمزا لحقبة مصرية تحت ملك ما.
مشكلة الرموز أنه يمكن الالتفاف عليها، فإذا وضعت “عودة الفلسطيني” رمزا للصراع العربي الصهيوني، فلن تعدم أن ترى من يحوّل العودة إلى زيارة بفيزا صهيونية، وهكذا يكون قد أخرج الرمز عن معناه تماما.
كذلك حصل مع عهد الإيمان الذي جاء به النبي محمد، وكان عقدا اجتماعيا يجمع الناس، فتحوّل إلى عقيدة غيبية تساهم في تفريقهم.
إذن علينا أن نقسم كلامنا إلى شقّين: شقّ صفات المشروع العام الناجح، وشقّ صفات الرمز الناجح لذلك المشروع.
المشروع العام:
+ أن يشمل الأمّة القاطنة تاريخيا في هذه البقعة الجغرافية كلها، فلا يصلح أن يكون المشروع العام لفئة دون أخرى، كأن يستبعد القبط أو الأمازيغ أو غيرهم من السكان التاريخيين للمنظقة.
+ أن يصاغ بطريقة لا تقبل سحبه إلى سكّة أخرى غير سكّته الأصلية.
+ أن يكون مفهوما للعوام والخواص كلهم بطريقة متساوية.
+ أن يكون جذريا، أي أن يكون مرتبطا بأكبر عدد من المشاكل التي سيساهم في حلها، أو لا تقوم له قائمة إلا بحلّها.
+ أن يكون قابلا للتخيّل.
الرمز:
+ أن يكون من الصعب جدا (أو المستحيل) تحقيقه بمعزل عن المشروع ذاته، لكي لا يحرف عن مهمته الأصلية.
+ أن يكون مما يستوعبه الناس جميعا، فلا يفهم على محمل غير محمله.
+ أن يكون قادرا على تحريك الجماهير عاطفيا.
بعد أن عرفت هذا، دعنا نتخيل ما يمكن أن يكون عليه مشروعنا ورمزه.
ماذا لو كان المشروع: إقامة اتحاد اشتراكي آفروآسيوي حرّ مستقل، فكيف نصيغ له رمزا يمنع التلاعب به؟
نستطيع أن نجعل الرمز هو قيام العاصمة في حيفا، لنضمن أن يتصادم هذا المشروع مع المشروع الصهيوني على طول الخط.
لا أعلم ما هو المشروع العام، وهو سيكون مهمة الأداة العامة التي ذكرناها من قبل، لكنني أعلم أنه يجب أن يتناقض مع اثنين: الكيان الصهيوني، الإمبراطورية الغربية، ولو دققت سترى أنهما الشيء نفسه.

في الإجابة عن سؤال: كيف نضمن تهيئة ما سبق من شروط إقامة الدولة العفيّة على رقعة جغرافية تتوفر فيها مقوّمات الدولة العفية؟
من يقرؤون هذه الحلقات عايشوا، على الأغلب ،حِصاراتٍ فرضتها قوة عظمى على دولة أو دول صغيرة، ولهذا فهم رأوا كيف أن الدول التي لا تملك منافذ بحرية، كأفغانستان والعراق، لم تستطع الصمود كما صمدت دول أخرى كاليمن مثلا. هذا في الحقيقة متعلق لدرجة كبيرة بالبدائل المتاحة أمام الشعب فيما يخص تبادل السلع، أو اكتفاء الشعب بما عنده من إنتاج وموارد.
في الوقت نفسه، من المرجّح أن القرّاء شهدوا حروبا شنّت على دول مختلفة، ورأوا كيف أن الدول التي تمتلك موانع جغرافية على حدودها تمكّنت من الصمود في الحروب أكثر، رغم كثافة القصف الجويّ، فالهيمنة على الأجواء لا تعني الهيمنة على الأرض.
إذن، فحتى تقوم دولة عفية، لا بدّ أن تحقق جغرافيتها شروطا لتكون قابلة للحياة، وتملك احتمالية النصر الكافية ليبذل الشعب ما بوسعه في معاركها، وإلّا فإن الإنسان يميل للراحة، ويتوجّه إليها.
متطلبات الدولة العفية من جهة الجغرافيا- السياسية هي:
+ انطباق أكثر حدودها الجغرافية كأمّة على حدودها السياسية كدولة.
هذا يعني أن الوطن العربيّ كاملا هو الحالة الأمثل للدولة العربية العفية، فالوطن العربيّ كمنطقة جغرافية محدود من الجنوب بالبحر والصحراء. ومن الشمال بالبحر والجبال، ومن الشرق كذلك، ومن الغرب بالمحيط.
لكن قد يمكن الحديث عن دولة عفية تقوم في أحد أقاليم هذا الوطن المترامي الأطراف الشاسع المساحة، مثل دولة على سوراقيا (بلاد الشام والعراق)، أو (مصر والسودان)، أو (المغرب العربي) كأقليم، أو الجزيرة العربية لو كانت تملك أسباب المنعة الأخرى.
ويمكن الحديث يصورة أقل عن دول تملك فرصا أعلى من دول أخرى، مثل مصر، أو اليمن، أو الجزائر.
+ كثافة سكّانية تمكّن الدولة من شغل المساحة التي تسيطر عليها سياسيا، وحمايتها باستغلالها.
هنا، أنا لا أتحدث عن مجرد رقم يمثل تعداد السكّان، بل عن توزيع هذا الرقم على المساحة بطريقة تضمن حدوث التنمية. أمّا تركّز معظم السكان في حوض نهر أو في ساحل، فهذا يهدد قدرة الدولة على الاستمرار عند الغزو أو الحصار.
+ التجانس السكّاني، أو وجود رابطة عليا تضمّ سكّان البلد كلهم تحتها بالتساوي، وتميّزهم عمّن سواهم. يمكن النظر إلى هذه النقطة بوصفها خطّا يمكن تحقيق جزء منه، لأن تحقيقه بصورة كليّة صعب، ما دمنا نتحدث عن اللحظة السابقة لنشوء الدولة المعافاة، فإذا نشأت، تصبح المواطنة كافية.
+ توفّر الموارد الضرورية للبقاء والازدهار، وأن تكون متنوعة بصورة تكفل أن تستغل جميعها، ليس كالنفظ الذي سحب لقاء برج هنا وقمر صناعي هناك.
ولأن هذه هي الشروط، فالذي يمكن فعله لتهيئة الأرضية لها هو الآتي:
– نشر المشروع العام على جغرافية عابرة لدول تحقق أراضيها هذه الشروط.
– انتشار المؤيدين للأداة العامة التي تتصدى لإقامة هذه الدولة على تلك الجغرافيا.
– التصدي للمشاريع المنافسة بصورة صلبة عندما يحين موعد المعركة النظرية والتنظيمية معها، وقد تكون المعركتان منفصلتين.
– امتلاك مشروع متجاوز للحفاظ على زخم الحركة. المشروع المتجاوز هو المشروع البعيد جدا. أمثلة على المشروع المتجاوز: تحقيق العدالة في العالم إذا كنا نتحدث عن دولة علمانية، أو الجنة، أو بعثة المهدي إذا كنا نتحدث عن دولة غيبية التوجّه. أي أنه لا يتحقق بمجرد إقامة الدولة.
هذه هو ما يجب أن نتوجه له كمجموعة، أمّا أفرادا فعلينا أن نمحّص نشاطنا اليوميّ، وكيف ينفعنا أو ينفع غيرنا كل فعل نفعله، وحين نبتغي منفعتنا الشخصية يجب أن نحرص على أن تضرّ أفعالنا مصلحة الجماعة.

علينا أن نمتلك الثقافة الضرورية، وننشرها، ونتصرف بناء عليها.

مدونة نور الدين

في الضروري من الثقافة

عن harka

شاهد أيضاً

دوغين والجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة.

يعد ألكسندر دوغين من أهم أعضاء الفريق الاستراتيجي الذي يحيط بالرئيس الروسي، بوتين، كما يعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

var x = document.getElementById("audio"); x.play();