الرئيسية / آراء ومقالات / أدب وفكر / غزة… غيرنيكا “الرعب والجرأة”!

غزة… غيرنيكا “الرعب والجرأة”!


نصار إبراهيم
( هذا العمل المدهش من إبداع الصديق الغالي الفنان التشكيلي الفلسطيني يوسف كتلو/عمايري)
الدم الفلسطيني العنيد يبحث دوماً عن ذرى جديدة، كموج يعلو ويفيض، كما فاض ذات يوم في تل الزعتر وفي صبرا وشاتيلا وقبل هذه المآسي… فيض من الشهداء والصبر والمقاومة يتواصل بين نكبة وأخرى، بين رصاصة وقذيفة، بين حرب وحرب، بين اقتلاع واقتلاع.
معادلة الفلسطيني معادلة ذات اتجاه واحد، المزيد من المقاومة والمزيد من الشهداء والأسرى والدموع والألم… ثم تتكرر المتلازمة: خذ يا وطن مزيداً من المقاومة والشهداء… تلك هي معادلة النصّ الفلسطيني المعادل للحرّية والكرامة والهوية والوجود. معادلة لا شك قاسية وصارمة تفرض إيقاعها على أيّ نصّ آخر. قد تنحرف أو تهبط النصوص في السياسة والأدب والشعر والفنّ والسلوك حيناً. لكنها تعود إلى سياقاتها قسراً، ما إن تستعيد المعادلة الناظمة سطوتها بالمقاومة والتضحية والعناد. فتكنس التشوّهات والزبد، وتستعيد ألقها وعنفوانها. تلك هي فلسطين.
الآن، حيث ترسم غزة فلسطين معادلاتها بدمها وبأسها، فإنها تطهّر روح الفلسطينيّ وتعيد صهرها من جديد. وغزّة دائماً هي التحدّي والاختبار الحاسم لأيّ نصٍّ قادم، ومدى قدرته على الصعود إلى مستوى نصّ المقاومة والتضحية والبطولة، أو مواصلة التملّص والتلصّص والمراوغة بين الالتباسات المشبوهة.
في عمله الإبداعيّ المدهش «غيرنيكا غزة الرعب والجرأة»، يصعد الصديق الفنان يوسف كتلو ذروة إبداعية جديدة، وكأن قوّة دافعة تقذف به نحو فوهة بركان غزّة الثائر ليخوض فيه. فيتقدم بين الرصاص والقذائف والموت والدماء وهدير الطائرات والحرائق والدخان والغبار. يتقدّم ويرسم. يلتقط البسالة والبطولة ونبض المقاومة لحظة بلحظة ويوماً وراء يوم ويرسم. ينساب مع حركة الدماء والدموع وإطراقة العين ويرسم، يأتيه صدى ضحكة طفل ثمّ صرخته وهو يسقط مدوّياً كسنديانة سامقة ويرسم.
إذن، «غيرنيكا غزة» ليست إلا استجابة تلقائية لما ترسمه غزّة بدمها ودموعها وبطولاتها في سفر الشعب الفلسطيني والإنساني.
يركض يوسف من دون توقّف، وكأنه يتحرّك في الميدان الفاصل ما بين الوحشية والبسالة المطلقة، يتابع تفاصيل المواجهة ورموزها. يمدّ خيطاً رهيفاً ليصل إلى «غيرنيكا» بيكاسو، حيث تلتقي الدماء بالدموع والألم وتنكشف الوحشية الممتدة عبر الزمن. لكنّ غزّة في فعلها المقاوم، تحرّر كتلو من حدودها وحصارها، فترسل ألمها الإنساني المقاوِم بأرقّ ما يكون وأعنفه. وبهذا، تتفوّق على «غيرنيكا» بيكاسو لأنها تخوض في الموت، وفي اللحظة ذاتها تقاوم بكل ما تملك، فغزّة ليست «غيرنيكا» الصمت والانتظار والعجز، إنما «غيرنيكا» المقاومة بكل تفاصيلها المدهشة والمرعبة.
غزّة تتجلّى كتكثيف عميق لفعل البطولة في مواجهة رعشة الرعب. تنهض بكامل إرادتها وتفاصيلها لتقاوِم، لكنها ليست مقاومة اليائس، إنّما مقاومة من يقاتل وهو يركض نحو أفق مضيء. فينفجر الناس البسطاء ويُفجِّرون. تمزّقهم الشظايا فيلمّون أجسادهم ويواصلون المقاومة. يدٌ تدفن شهيداً وأخرى تطلق النار، لا خطوة واحدة إلى الوراء، فالقدم التي تفكّر بالتراجع يتبرّأ الجسد منها. أي نصٍّ إذن بمقدوره أن يرتقي إلى هذه الحالة المذهلة؟!
غزّة هي فالق الصبح بين عالمين، وجهين، خطّين وحقيقتين. أبيض أو أسود. قد يحتجّ البعض على هذا الحسم ويقول: «الواقع غير ذلك». ليكن، فغزّة هي أيضاً غير ذلك. فحين تصبح المواجهة عارية تماماً، لا مكان لألوان أو عوالم أو وجوه رمادية باهتة وملتبسة. فإما أن يكون الإنسان مع غزّة أو ليزحف تحت خطوط الرصاص المتشابكة لينحاز إلى الجبهة المقابلة. فلا مكان في حقل الموت والبطولة لمساحات أو مسافات ملتبسة، أو ألوان ملتبسة، وعواطف ملتبسة، وكلمات ملتبسة، وسياسات ملتبسة، ومواقف ملتبسة.
لقد فرض اللونان الأسود والأبيض نفسيهما على العمل قسراً في استعادة باهرة لمعادلة ناجي العلي وحبره الأسود الذي كان يشاكس المساحات البيضاء. هما لونان فقط، الأبيض والأسود بكل شراستهما ورقّتهما ووضوحهما. فإمّا الأبيض وإمّا الأسود، إما مع فلسطين أو ضدها، إما مع غزة أو ضدها، إمّا مع رهافة العين أو مع شفرة السكين. معادلة لا تعترف بربع اللون وربع الصوت وربع الموقف.
هكذا تستعير الألوان غير ذاتها كي تصل الرسالة واضحة كالشمس. إنها تأخذ دلالاتها من براكين الدماء الفوّارة. لهذا، يعير الأسود ذاته إلى الأحمر بكلّ دفقه ورهافته وحرارته. دم يغمر كل شيء، العينين والعواطف والروح والبحر والبرّ والهواء. أفق أحمر قان. وفي لحظة، يعيرالأحمر ذاته للرماديّ. حيث الدمار وغبار المنازل والمدارس والمستشفيات والجامعات والدخان الأسود الذي يتصاعد إلى أقصى السماء. وفي لحظة أخرى، يحتلّ الأسود الأخضر فتشمخ أشجار البرتقال والليمون والرمان ودوالي العنب بأشلائها الرمادية المحترقة نحو سماء رمادية باردة كالرصاص.
غزّة في هذه اللحظة تطلق صهيلها، فهناك عند الأفق خطّ مضيء هو الهدف، معه وبه تندمج غزّة في ذاتها. تتلاحم في بوتقة النار كسبيكة: النساء، الرجال، الأطفال، العيون، الأيدي، الأرجل، الشفاه، الأديان، الطوائف، القومي، المتدين، اليساري، العلماني، المؤمن، الملحد، الأشجار، الدمار، الورد، الخبز، الدم، الماء والغبار.
في جحيم الرعب والجرأة، تتجاوز غزّة كل ما هو شخصيّ أو ذاتيّ. فقد اختلط ركام البيوت ببعضه، فاختلط الأثاث وأصص الزهور وملاعق المطبخ والملابس والدفاتر المحترقة. رماد واحد عظيم، دمار واحد عظيم. اختلطت العائلات والأسَر، كما اختلط الدم والعظام في حمأة المجزرة. فكيف لغزّة أن تميّز بين كلّ هذا؟ لهذا تقول: «أنا غزّة كلّ هذا معاً، فلا وقت ولا مكان للحدود والفواصل. لقد اختلطت دماء شهدائي وركام بيوتي وبقايا أشجاري ومياهي وخبزي، أما مقابري فتضمّ أشلاء أجساد وأطفال لا نملك الوقت لتمييزها ولا نريد ذلك، ولهذا يبكي الجميع الجميع ويودّع الجميع الجميع، ويقاوم الجميع من أجل الجميع».
غزّة تعطي الآن للزمن معاني ودلالاتٍ جديدة. فلا الفجر فجر، ولا المساء مساء، لا النهار نهار ولا الليل ليل. هنا في غزّة تماثلَ الزمن مع وقع الرّعب والجرأة، فلا فرق بين شهيد المساء وشهيد الصباح، كلّ يدفن حيث هو. حيث هو هي غزّة كلّها… فلسطين كلّها.
وهنا… في غزّة، يأخذ المكان والفضاء أيضاً معانٍ ودلالات جديدة. فلا البيت هو البيت ولا الساحة ولا الشرفة ولا الشارع ولا الفضاء. هنا يصبح المكان ويمسي ملكاً جماعياً، حقلاً لذاكرة جماعية. فكيف يمكن التمييز بين الدماء التي روت المكان ذاته؟ كيف يمكن التمييز بين دمعة أمّ تبكي أمام ما تعتقد أنه أشلاء ما بقي من ابنها، ومع ذلك فهي تبكيه بكلّ صدقها ودموعها. وأمّ أخرى تبكي أشلاء طفل آخر تعتقد أنه طفلها، فتبكيه بالصدق ذاته والدموع عينها.
لم يترك الموت القائم في غزّة هامشاً للتمييز بين أيّ تفصيل أو مكان وآخر، فهو أصلاً غير معنيٍّ بذلك. هو موت يحمل قراراً واحداً: اقتلوا غزّة ودمّروها واحرقوها وحطّموا روحها.
في «غيرنيكا» غزّة ليوسف كتلو وجوه أليفة، عيون تغطّي كامل المساحة غضباً، أسئلة ودهشة، حزناً وألماً، إصراراً ومقاومة، صبراً وعناداً. فلا وجود لعين تنظر مواربةً، كلّ العيون مفتوحةٌ على اتساعها ومداها وكأنها تقول: لن ننسى! عيون تشكّل خزّان الذاكرة الجمعيّ لأجيال ستأتي بعد حين. أجيال عليها أن تعرف ما الذي جرى هنا في غزّة ذات حروب متواصلة. وعلى أيّ أرض تقف. ومن أيّ تراب تستمدّ الأشجار الواقفة غذاءها. عيون مليئة بالغضب والخوف والرعب والفقد، وأيضاً بالإصرار والتحدّي والبطولة المطلقة.
ينحدر الضوء في «غيرنيكا» غزّة من أعلى الأسود كقبس ويغوص في الأرض. كان عليه أن يهبط من عليائه ليحقّق ذاته عند مرجعية أبهى هي الناس في لحظة الفعل والانفعال. ليضيء سنبلة وأقداماً مبعثرة تنتمي للجميع.
الأقدام والأصابع تتموضع في كلّ الزوايا بصورة عفوية، أصابع واضحة. وكأنها تصرخ: «لا تنسوا حتى تفاصيلنا». مرة أخرى يستحضر كتلو ناجي العلي. فحنظلة يدير ظهره للعالم. غضباً ويأساً تمهيداً للفعل الخاص. أما في مشهدية غزّة، فيحرّك كتلو الأقدام العارية ويرفعها ويخفضها بما يوازي وجه العالم، أقدام بقدر ما هي شخصية فإنها في اللحظة ذاتها استعارة أو كناية شرسة تجاوزت كل خطابات المجاملة واللغو الفارغ لترتفع في وجه العالم استهزاءً.

غزّة، رمال وبحر وناس، فقراء ولاجئون، صيّادون وعمّال ومزارعون بسطاء يُمْلونَ على على العالم خطاباً جديداً وثقافةً جديدة. غزّة جنوب جنوب فلسطين وطن شديد المراس. تتّكئ على البحر ووجهها نحو الشمال دائماً.
حَشَدَ القاتلُ الفاشيّ أقصى وحشيته وجنونه. والهدف كسْر غزّة بما ينسيها ذاتها وتاريخها.
ضحكت غزّة. ثم عبست وقالت: “جرِّبوا للمرة العاشرة… فلا بأس بدرسٍ جديدٍ وخيبةٍ جديدة”.
تلمّست غزة رمالها وأطلقت غضبها العاصف يقطع المسافات شمالاً شمالاً.
وفيما غزّة تلقي مع كلّ فجر بيانها، كانت في اللحظة ذاتها تمزّق الأقنعة. لهذا، فإن الأسود والأبيض أفضل الألوان الكاشفة. لقد ضيّقت غزّة مساحة الاختيار أمام الجميع لتجبرهم على الانحياز. وبذكاء فطريّ، قالت: اختاروا الآن. إمّا معي هنا، أو معهم هناك… ولا تبحثوا عن خيار ثالث، ذلك لأنه غير موجود أصلاً.

عن harka

شاهد أيضاً

خالد الفقيه يكتب: ناجي العلي، الريشة البوصلة والأسود الأبيض الكاوي

عقود مرت وأخرى ستليها لتؤرخ لنجاة ناجي العلي من ذل مرحلة لطالما أرقته وكان له …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

var x = document.getElementById("audio"); x.play();