الرئيسية / آراء ومقالات / ما لم تعلنه السياسة، يفضحه الاقتصاد. ج 1

ما لم تعلنه السياسة، يفضحه الاقتصاد. ج 1

نظرة على التاريخ:

بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى والثانية، كانت معظم بلدان العالم الصناعي قد دُمرت تماماً، الناجي الوحيد من هذا المصير كان الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كان الناتج الأمريكي عند نهاية الحربين يصل إلى ما يقارب الـ 60% من إجمالي الناتج العالمي، حيث بلغت صادراتها نحو 22% من جملة الصادرات العالمية، وبلغت وارداتها 13% من جملة الواردات العالمية في عام 1948، مع تحقيقها لفائض في ميزانها التجاري يزيد على 4.5 مليار دولار.

وهو ما مهد لجعل الدولار  وسيلة الدفع المعتمدة في حلبة التجارة الدولية، خاصة مع تنفيذ مشروع مارشال الذي أدى لتحقيق فائض تجاري لصالح الولايات المتحدة حتى عام 1968، وحتى تلك اللحظة كانت الولايات المتحدة ملتزمة بتحويل الدولار إلى وزن محدد من الذهب، السياسة النقدية والمالية الأمريكية لم تكن تخشى ارتفاع معدل التضخم الناتج عن الإفراط في السيولة النقدية المتاحة في الأسواق، طالما أن دول العالم أجمع تقبل طوعا، بل ترحب باستيعاب أي كمية من الدولارات تقوم بطرحها السلطات النقدية الأمريكية. ولكن بمرور الوقت بدا من الواضح للإدارة الأمريكية أن حجم ما هو متاح في الأسواق من أوراق العملة الخضراء يزيد على المتاح من احتياطيات الذهب، ولذا قرر الرئيس الأمريكي نيكسون فجأة عام 1971 فصم العلاقة بين الدولار والذهب، ليتحول كل ما لدى العالم من دولارات إلى أوراق تتيح لصاحبها حقوقا على الإنتاج الأمريكي (أي يمكن بها شراء السلع الأمريكية) أو أداة للاستثمار في السوق الأمريكي، ولكن ليس أكثر من ذلك، ونتيجة لهذا دخل النظام النقدي الدولي المستند للدولار في أزمة شديدة في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وتحول العالم من نظام أسعار الصرف شبه الثابت الذي تقرر في اتفاقيات بريتون وودز عام 1944 إلى نظام أسعار الصرف المعومة عام 1973*.

الأزمة المرتقبة: 

مع انتصاف عام 2019، وكنتيجة للحروب التي تشنها إدارة ترامب ضد عدد من كبريات الاقتصاديات في العالم وفي مقدمتها الصين والإتحاد الأوروبي، اشتعل سؤال هل يسقط العالم مرة أخرى في هاوية أزمة اقتصادية جديدة تفوق في تبعاتها أزمتي كل من 1929 و 2008؟

يقول سمير أمين في حوار أجري معه من قبل روبن رامبيور حول أزمة النظام الرأسمالي ووهم الحلول التي قدمها النظام الرأسمالي لنفسه في أزمات ظهرت ما بين 1890 ولغاية 2008 “تمثلت الأزمة الكبرى الأولى في التسريع بالاستعمار، الذي يعتبر صيغة أكثر فظاظة للعولمة .أما الموجة الثانية، فتحيلنا على مخططات التقويم الهيكلي لصندوق النقد الدولي، والتي يمكننا وصفها باستعمار جديد. أما المقياس الثالث والأخير فهو: التمويل.عندما يتم تقديم التمويل باعتباره ظاهرة جديدة، فهذا يضحكني .ما هو الجواب الذي أعطي للأزمة الأولى؟ وول ستريت ثم حي السيتي (لندن) سنة 1900 ! وهذا ترتبت عنه نفس النتائج .أولا، خلال فترة قصيرة حيث بدا أن الأمور سارت على ما يرام، لأنهم أرهقوا الشعوب، لاسيما شعوب الجنوب .كان ذلك بين سنتي 1890إلى غاية 1914″الحقبة الجميلة . لقد تمسكوا بنفس الخطابات حول “نهاية التاريخ” ونهاية الحروب. كانت العولمة مرادفة للوئام والاستعمار من أجل غاية متحضرة .لكن، إلى أي شيء قاد مختلف ذلك؟ إلى الحرب العالمية الأولى، الثورة الروسية، أزمة 1929، النازية، الامبريالية اليابانية، الحرب العالمية الثانية، الثورة الصينية، إلخ.. بوسعنا القول أنه بعد 1989، تحقق ثانية ما يشبه الحقبة الجميلة ، إلى غاية2008، مع أنها واكبتها منذ البداية حروب الشمال ضد الجنوب .أرسى الرأسمال خلال تلك الحقبة، البنيات كي تنجح الاحتكارات في الاستفادة من إيرادها. وبما أن التعميم المالي أدى إلى أزمة 1929، ثم قاد مؤخرا إلى أزمة 2008 . بلغنا حاليا نفس اللحظة العصيبة التي تعلن عن موجة جديدة من الحروب أو الثورات

عندما تولى ترامب مهامه كرئيس للولايات المتحدة، كان مجموع العجز المزمن وفوائد الدين يعادل إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة الأمريكية، حيث بلغ 19950 ألف مليار دولار، وارتفع عجز الميزانية بنسبة 17% ليبلغ 779 مليار دولار ليبلغ أسوأ قيمة إجمالية له منذ عام 2012، وحسب مكتب الميزانية في الكونغرس، فإن العجز مع نهاية 2019 سيبلغ 900 مليار دولار، وارتفعت قروض الشركات الأمريكية منذ حووالي 10 سنوات بمقدار الضعف تقريباً، تغذيها بذلك السياسة النقدية التي اعتمدها الاحتياطي الفدرالي بعد أزمة 2008، وبلغت ديون الشركات 9 آلاف مليار دولار والتي باتت تشكل خطراً على الاقتصاد الكلي وفق رئيس البنك الفيدرالي الإتحادي.

التوجه الأمريكي لدرأ الخطر الشرقي بدأ في عهد باراك أوباما، حيث انتقلت الصين من انتاج البضائع الرخيصة إلى رؤية تهدف إلى عالم لا مكان فيه للاحتكار الأمريكي والغربي فيما يتعلق بالصناعات النوعية، والدخول في مجال التنافس التكنولوجي، وهنا أصبحت الصين منافساً خطراً على اقتصاد الغرب ككل واقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص.

فقد خصصت الصين للإنفاق على الصناعة التكنلوجية بما يتضمن ذلك الذكاء الصناعي 150 مليار دولار، هذا التوجه الصيني بدأ التمهيد له حكومياً من خلال الاتفاق على مراكز الأبحاث والتعليم، وإقرار مشاريع ضخمة تخطط لعالم تكون فيه المدن الذكية هي المعيار بما سيستوجب تغيير تركيبة العالم، وهو ما أصاب أمريكا بالرعب، وهنا تأتي سياسات ترامب بمحاولة إجبار الصين على تقديم تنازلات حتى لا تصبح الولايات المتحدة خلف الصين بعد سنوات قليلة.

وهنا نعود إلى ما قاله سمير أمين وما أوردناه سابقاً كنقطة من إجابة سمير أمين عن أزمة الرأسمالية في وصفه لمحدودية الحل عبر وصفه للعولمة بأنها –نفس اللحظة العصيبة التي تعلن عن موجة جديدة من الحروب أو الثورات- فالغرب ممثلاً بالهيمنة الأمريكية حين أوجد مفهوم العولمة لم يكن يرى فيها مستقبلاً لغيره، على أنه اليوم يجد نفسه يرفض هذه العولمة التي تهدده بشكل مباشر، بحيث أصبحت العولمة عاملاً مساعداً لدول أخرى كالصين باستقبال التكنلوجيا وبيعها بنفس الجودة وبسعر أقل، على رغم احتكار الشركات الأمريكية لما يسمى ببراءة الاختراع، وباتت الصناعة تشكل أقل من 10% من اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.

صادرات الصين اليوم تقدر بنحو 2.4 ترليون دولار وفق أرقام عام 2017، وهي ثاني أكبر دولة في العالم بالإنفاق العسكري، وهذا الأمر قلص من الثقة الأمريكية في التفوق في بحر الصين الجنوبي، بحيث أصبحت الإمكانات الأمريكية مطوقة بأنظمة دفاعية وجزر اصطناعية وقدرات تقنية عسكرية عالية، بحيث أصبح التوسع بفرض العقوبات الاقتصادية كأداة للسيطرة على الدول عاملاً تسريعياً لإيجاد منظومة اقتصادية خارج المنظومة التي وضعت عام 1944 في بريتون وودز.

 

الهوامش:

*هيمنة الدولار.. لماذا وإلى متى/ مجدي صبحي

*الرأسمالية شاخت والحركات الاجتماعية قد تأتي بتقدميين أو فاشيين- حوار صحفي مع سمير أمين.

*الاقتصاد العالمي أمام خطر انتكاسة خانقة ومدمرة- الهيمنة المالية الأمريكية محكوم عليها بالانحسار/عمر نجيب

عن harka

شاهد أيضاً

دوغين والجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة.

يعد ألكسندر دوغين من أهم أعضاء الفريق الاستراتيجي الذي يحيط بالرئيس الروسي، بوتين، كما يعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

var x = document.getElementById("audio"); x.play();