الرئيسية / آراء ومقالات / أدب وفكر / عرض وتلخيص كتاب بقلم د.بهجت سليمان.( الحلقة الأولى

عرض وتلخيص كتاب بقلم د.بهجت سليمان.( الحلقة الأولى

الحلقة الأولى ( 1 )

[ حقيقتنا المطلقة ] [ الحياة و الكون و قدر الإنسان ]

● تأليف الفيلسوف ( إدريان كوبر )

■ نقله إلى العربيّة : ( أ. د. منذر محمود محمد )

{ يحتوي الكتاب على ( 3 ) أجزاء }

في ( 113 ) فصلاً
و مقدّمة و خاتمة

في ( 670 ) صفحة من القطع الكبير

مدخل :

منذ قديم الأزل ، أي منذ البدايات الأولى لظهور الإنسان العاقل ، بدأ النّاس يتأمّلون في طبيعة الكون و الكوكب الذي نعيش فيه و في أنفسهم بطبيعة الحال. ما الذي يعنيه كلّ ذلك ؟ لماذا أنا موجود هنا ؟ ما هو المغزى الحقيقيّ لحياتي ؟ ما الذي سوف يحدث لي بعد الموت ؟ هل سأعود من جديد إلى حياة أخرى على الأرض؟

تعتبر الحلول الموضوعة لهذه الأحاجي الموغلة في القدم، كونيّة و خارج أطر الزّمن في الوقت عينه؛ ذلك أنّه دائماً ما كانت في متناول أيدي البشر على امتداد الزمن.

بدأت تتكشّف أمام الفيزياء الكمّيّة الحديثة الآن و بصورة مستقلّة تماماً، الطّبيعة الحقيقيّة لهذا الكون الذي نعيش فيه، و هو كون لا متناه و متعدّد الأبعاد، و يعجّ بالطاقة و الوعي؛ و هذا بدوره يؤكّد مرة أخرى أنّه دائماً ما كانت و ما تزال و ستبقى هناك حقيقة مطلقة و حيدة، و هي حقيقة كونيّة لا يمكن أن يزعم احتكارها فرد أو عرق أو ثقافة أو علم أو دين بعينه.

رزح معظم بني البشر ممّن جرفتهم عبادة المال و فقدوا صلتهم بالحقيقة، تحت نير التّأثيرات الضّارّة التي تفرزها الحياة المادّيّة و الأنانيّة و الجشع و الطّمع و التّعصّب و عدم التّسامح و التّمييز و اللا مساواة و التّهافت المسعور على المنافسة التي تطبع عموماً الحياة العصريّة.
و قد أدّى ذلك في معظم الأحيان إلى انتشار الفقر و البؤس على نطاق واسع، و إلى إحساس عارم بالخوف و عدم الاستقرار و عدم اليقين و المعاناة و الابتعاد المطّرد عن مصادر المعرفة الحقيقيّة؛ و بالتّالي عن المصير النّهائي و المطلق للإنسانيّة جمعاء .
و قد تسبّب ذلك كلّه بدوره في أنّ البشر بدأ ينتابهم شعور خاطئ بأنّهم ليسوا سوى أفراد مبعثرين لا يجمع بينهم جامع، يقطن كلّ منهم في جسد مادّيّ منفصل تماماً عن الكون و عن أيّ شخص آخر في الوجود، و هو غالباً ما يصارع من أجل البقاء في بوتقة منعزلة تكون أحياناً عدائيّة لا يقدّم أيُّ مكوّن فيها أيّة قيمة أو معنى.

و لكنّنا نحن نشاهد اليوم تحت تزايد شعبيّة الإنترنيت و وسائل الاتّصال الأخرى، و التي هي ليست مجرّد مصادفة محضة بالتّأكيد، و بصورة مطّردة، ما يمكن أن نطلق عليه وصف الظّواهر الإعجازيّة، حيث يمرّ البشر بمختلف انتماءاتهم و مشاربهم بتجارب تلقائيّة و عفويّة تتّصف أحياناً بأبعاد روحيّة دراماتيكيّة. إنّ خوض مثل هذه التّجارب يمثّل رغبة صادقة و ملتزمة في البحث عن الغاية الحقيقيّة التي غالباً ما تترافق مع وعي عارم بأنّ الحياة تشتمل على قيم و معان تتجاوز العالم المادّيّ الذي يعتبره العديد من النّاس خطأً بأنّه هو “الحقيقة”.

تسارعت العلوم و بدأت تنظر إلى أنّ العالم المادّيّ الثّلاثيّ الأبعاد ليس سوى مكوّن صغير جدّاً و متناه جدّاً لحقيقة داخليّة أكبر و أكثر تشابكاً و انسجاماً تتكوّن من أبعد أكثر عدداً و تشابكاً و انسجاماً، ستفرض نفسها على العقائد الكونيّة في تمدّد الوعي الكوني الذي يلف الإنسانيّة جمعاء.
إنّ هذه الأبعاد الرّوحيّة للكون هي الحقيقة الحقّة و أنّ عالم الكرة الأرضيّة ليس سوى انعكاس باهت للمستويات الباطنيّة للحقيقة الحقّة.
لقد قاربت الفيزياء الكمّيّة الكون بصورة مجازيّة و منطقيّة جدّاً باعتباره صورة هولوغراميّة سائلة و مهيبة مجسّمة ثلاثيّة الأبعاد أو ما يعرف أيضاً بالحركة الكلّيّة (Holomovement) أي إسقاط كونيّ للوعي و الطّاقة على شكل ذبذبات تتبدّى على صورة ظواهر لا يمكن فصلها عن بعضها بعضاً و هي موجودة في كافّة الأبعاد داخل بنيان كلّ شخص و كلّ شيء.

الجزء الأوّل

كوننا اللامتناهي

—————————————

الفصل الأوّل

طبيعة الكون

يعي معظم النّاس في الأحوال العاديّة العالم المادّيّ من خلال حواسّهم الخمس؛ و هذا واقع صحيح لدرجة أنّه إذا لم يتطابق شيء مع واحدة أو أكثر من هذه الحواسّ بشكل لا يقبل التّأويل فإنّه يُعتبر غير موجود على الإطلاق أو أنّه مجرّد وهم أو شطحة من شطحات الخيال.
و الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة هو الرّب أو الأرباب الموجودة في العديد من من الأديان المنتشرة في العالم و نُظُم الإيمان بها.

إنّ النّظرة الحسّيّة إلى العالم ساهمت في وصول العالم إلى ما وصل إليه اليوم من التّفاوت بين من يملكون أكثر ممّا يحتاجون حقيقة، و بين النّاس المعوزين الذين يعانون الحرمان.
و غالباً ما نشاهد اليوم بالتّزامن مع هذه الحالة البائسة عالماً يسوده الجشع و الخداع و الطّمع و الكراهيّة مترافقاً مع أعمال العنف جنباً إلى جنب مع الخوف و الفقر و المعاناة.
و يعود هذا إلى سوء الاستخدام الفاقع لنعمة الإرادة الحرّة التي وهبنا إيّاها الخالق.
ما من شكّ أنّ الطّبيعة الحقيقيّة للكون سوف تشكّل تحدّياً لمفهومات معظم النّاس، و يكفي أن يكون السّبب في ذلك وجود فهم خاطئ على نطاق واسع حول وجود “ربّ” منفصل تماماً عن أيّ شخص و عن أيّ شيء آخر في الوجود، و هو من يتحكّم وحيداً بعالمه المادّيّ الثّلاثيّ الأبعاد من علٍ.

على امتداد عدّة آلاف من السّنين، و مع انبلاج عصر الإنسان الذّكيّ، كان يتمّ شرح و إيضاح حقيقة الكون في كافّة أرجاء العالم على أيدي مجموعة من الأشخاص المنتقين الذين كانت مهامّهم تنصبّ على تعليم هذه القضايا للبشر. و تتراوح سويّة هؤلاء بين من يتمتّعون بسويّة عالية من الذّكاء الرّوحانيّ الذي يركّز على الفضاءات الباطنيّة للحياة، و بين من يُطلق عليهم وصف الخبراء الكبار الذين غالباً ما كانوا يتجاوزون المستوى الإنسانيّ، و الذين كانوا من وقت لآخر، يتقمّصون الشّكل البشريّ على الأرض من أجل تعليم البشر الحقائق و الوجهات الكونيّة التي يحتاجها كلّ كائن بشريّ من أجل تحقيق قدرهم المطلق المتمثّل باعتبارهم كائنات روحيّة خالدة تُقفل عائدة من خلال الدّرب المقدّسة، إلى خالقنا الرّئيسيّ؛ “الرّبّ”. لقد كان ذلك يؤكّد على أنّ الهدف و القدر الحقيقيّين يمكن تحقيقهما.

أصبح البعض من بين هؤلاء المعلّمين العظام معروفين جدّاً، و قدّموا خدمات جُلّى للإنسانيّة؛ و لكن من المدعاة للأسف أنّه، و على امتداد آلاف السّنين، فإنّ هذه التّعاليم قد تمّ تحريفها بشكل كبير، و بالتّالي إساءة فهمها؛ و أصبحت في بعض الحالات الأساس الذي بنيت عليه الأديان المتشدّدة و الموغلة في التّعصّب.
و لكن و لحسن الطّالع، فإنّ الحقيقة هي واحدة و خالدة في آن، و لذلك فقد استطاعت على امتداد آلاف السّنين الصّمود و البقاء بصفتها جزءاً لا يتجزّأ من الثّقافات في جميع أنحاء العالم، حيث ما تزال ماثلة و حيّة حتّى يومنا هذا، و هي قادرة على الوصول إلى قطاعات أوسع من البشر، ما يؤدّي في نهاية المطاف إلى تمدّد كونيّ للوعي يصبح فيه الهدف و القدر الحقيقيّان جزءاً لا يتجزّأ من حياة كلّ فرد على هذه المعمورة.

و فما يلي مقارنة لمنابع الحكمة و المعرفة الأكثر انتشاراً و الأكثر تداولاً و التي انبثقت من مروحة واسعة من الثّقافات الشّرقيّة و الغربيّة، تسلّط الضّوء على التّناغم العميق بين التّعاليم التي تطلع بها كلّ واحدة منها؛ و التي بدورها تأخذ حيّزها الطّبيعيّ و الثّابت في حقل الفيزياء الكمّيّة.

الفصل الثّاني

تعريف كلمة ” الرّبّ”

تجدر الإشارة إلى ملاحظة أنّنا باستعمال كلمة “الرّبّ”، فإنّنا لا نعني بذلك من قريب أو من بعيد الإشارة إلى إله مجسّد أو معبود من قبل العديد من الدّيانات المتشدّدة، كالمسيحيّة مثلاً.

للرّبّ الكونيّ العديد من الأسماء التي تُنسب إليه بحسب كلّ ثقافة على حدة و بحسب الطّريقة التي بواسطتها يتمّ تعليم الحقائق الكونيّة لتابعي هذه الدّيانات.
فالرّبّ على مرّ العصور كان غالباً ما يُشار إليه و حتّى يومنا هذا، بأسماء مثل: الكون و المنبع و العلّة الأولى و الأثير و الأكاشا ( أو القوّة الأعظم في الكون )، و الكلّ و الرّوح و الرّوح العظيمة و الخالق الأعلى، و العديد من الأسماء الأخرى. و هذه هي تجلّيات المظهر الكونيّ للرّبّ الموجود، و هو الموجود منذ الأزل، و سوف يبقى موجوداً بصورة أزليّة لا يعدّه زمان و لا يحدّه مكان؛ و هو الرّبّ ذاته الذي نشكّل نحن البشر أحد مظاهر تجلّياته، ذلك أنّ كلّ مظهر من مظاهر وجودنا متوضّعة في عقل الرّبّ بصفتنا مخلوقات فرديّة أزليّة و روحيّة؛ و هو الرّبّ نفسه الموجود في كلّ فرد منّا، تماماً كما نحن موجودون في الرّبّ.

نشير إلى الصّور الرّئيسيّة للرّبّ و هي من خلال ثلاثة أسماء مختلفة :

المنبع : و هو كلّ ما هو موجود في الكون، و هو الطّاقة الكلّيّة. و هو نبض الحياة الذي يتدفّق من المنبع. و كلّ ما في الكون هو جزء لا يتجزّأ من المنبع و تعبير عنه. المنبع هو كلّ ما هو كائن.

العلّة الأولى : الطّاقة المنبثقة عن المنبع هي العلّة الأولى لكلّ شيء في الكون. كلّ ما في الكون كان و ما يزال في طور الخلق من قبل العلّة الأولى. هو الخالق الرّئيسيّ للكون : العالم الأكبر؛ و أمّا نحن البشرَ كمنبثقين عن العلّة الأولى، فخالقون ثانويّون ضمن إطار الكون، أو علل في إطار كوننا المحلّيّ : أو حقائق كونيّة جزيئيّة يمكن لنا أن نمارس الخلق بواسطة القوّة المنبثقة عن عقولنا.

الرّبّ : الرّبّ هو المنبع و هو العلّة الأولى.

الفصل الثّالث

الهندوسيّة

شكّل الشّرق الأقصى مادّة غنيّة للخبرات الكونيّة على مدى آلاف السّنين للحكمة و المعرفة، و خصوصاً في بلدان و ثقافات مثل الهند و الصّين و التّيبت، ما أدّى إلى فسح المجال لظهور فلسفات و شبه أديان كالبوذيّة و الهندوسيّة و الطّاويّة.

الهندوسيّة هي واحدة من أقدم الأديان في العالم، إذا جاز تسميتها بحقّ، “دين”. لا يمكن الإشارة إلى الهندوسيّة في واقع الأمر على أنّها مجرّد فلسفة، كونها تشمل مروحة واسعة جدّاً و متنوّعة و مختلفة من العقائد و المذاهب الاجتماعيّة و شبه الدّينيّة؛ بالرّغم من أنّها جميعاً تنبثق من مصدر واحد. و هذه بدورها تتضمّن طقوساً متعدّدة و شاملة و تنبض بالحيويّة؛ إضافة إلى ممارسات ذات طابع روحانيّ.

و للهندوسيّة ثلاث تسميات رئيسيّة هي :

“سانتانا دراما” و تعني “الدّين الأزليّ”،
و “فيديكا دراما” و تعني “دين فيدا” أي “المعرفة”،
و هناك “الهندوسيّة” نفسها و التي لا يُعرف أصلها بصورة دقيقة.

إحدى نظريات أصل إسم “الهندوسيّة” تقول إنّها مشتقة من أحد النّقوش القديمة التي ترجمت على أنّها: البلاد الواقعة بين جبال الهيمالايا و منطقة بيندو ساروفارا، المعروفة بإسم (هندوستان). و تعود أصول الهندوسيّة إلى حضارة وادي الإندوس Indus و التي يرجع تاريخها إلى 4000 و 2200 بحسب نقش BCE (Before the Common Era)، أي “قبل الحقبة المشاعيّة”، و المعروفة قبلاً ب: BC أي “قبل المسيح”.

من بين أكثر النّصوص الهندوسيّة قداسة هناك نصوص “المعرفة” The Vedas و “ريغ فيدا” The Rig Veda و “سما فيدا” Sama Veda و “ياجور فيدا” Yajur Veda و “أثارفا فيدا” Atharva Veda . يُعرف “ريغ فيدا” أيضاً بإسم “ريغفيدا” Rigveda و هو الأقدم من بين جميع هذه النّصوص كونه مدوناً أصلاً حوالي سنة 1500 قبل الحقبة المشاعيّة. تحتوي نصوص المعرفة هذه على تراتيل و تمائم و طقوس تعبّديّة من الهند القديمة.

هناك مجموعة أخرى من النّصوص الرّئيسيّة الهامّة تدعى “أوبانيشادس” Upanishads. تمثّل هذه النّصوص استمراراً للفلسفة الفيديّة، و قد تمّ تدوينها بين سنتيّ 800 و 400 قبل الحقبة المشاعيّة.
يتّسع أفق الأوبانيشادس فيشرح كيف أنّ الرّوح البشريّة Atman يمكن أن تتّحد مع الحقيقة المطلقة أو ما تُسمّى براهمان Brahman أي الحقيقة الكونيّة ، و ذلك من خلال التّأمّل و التّدبّر؛ و أيضاً من خلال قانون الكارما Karma.

الدّيانة الهندوسيّة محاطة بمجموعة أعمال تعرف بإسم “المعرفة”. و إحدى أهمّ الملاحم الهندوسيّة تدور حول محاورة بين الإله الهندوسيّ كريشنا و المحارب “أرجونا” و قد وضعت ضمن إطار قصة ممتعة و مسليّة و هي قصة تصوّر معركة الطّبيعة البشريّة و معركته من أجل التّنوير و الحقيقة.
الأساس الذي تستند إليه تعاليم كريشنا مطابق تماماً لتعاليم مشابهة متداولة في بقاع شتّى من العالم و هي تتطابق مع المعرفة و الحكمة الكونيّة المعروفة على مرّ الأجيال كما تناولتها معظم التّقاليد الموروثة في العالم، و المتناغمة مع مبادئ الفيزياء الكمّيّة.

و تتلخّص تعاليم كريشنا في هذا السّياق في أنّ كلّ ما يحيط بنا، و كلّ ما يحدث حولنا ما هو إلّا دلائل على الحقيقة المطلقة الواحدة و الوحيدة. و تدعى هذه الحقيقة المطلقة في الهندوسيّة “براهمان”؛ و هي تشير إلى نفس معنى “الواحد” و “الكلّ” و “الرّوح” و كلّ ما هو كائن، و هذا ما يمكن أن يماثل مع ما يُطلق عليه في الغرب إسم “الرّبّ”.

تؤكّد الأوباشينادس على هذه الحقيقة باختصار على النّحو التّالي :

” هو ذلك الذي يمثّل الجوهر بأبهى حلله – هذا العالم الكلّيّ يحتضن ذلك الجوهر الذي هو بمثابة روحه. تلك هي الحقيقة. ذلك هو الأتمان. مع أنّ ذلك هو الفنّ”.

يؤكّد كتاب “بهاغافاد غيتا” على حقيقة المفهوم الخاطئ الذي يعتقده معظم النّاس حول الكون من خلال المقولة التّالية:

” تحدث كلّ الأفعال ضمن نطاق الزّمن من خلال تشابك قوى الطّبيعة؛ لكنّ الإنسان التّائه في خضمّ خداع الذّات يعتقد أنّه هو الفاعل. أما الإنسان الذي يعي طبيعة العلاقة بين قوى الطبيعة و أفعاله هو، فإنّه يرى كيف تعمل بعض قوى الطبيعة على بعضها الآخر, و يتحرّر بالتالي من ربقة عبوديّته لها “.

ما يزال العديد من أتباع الديانة الهندوسية يقاربون البراهمية من خلال وساطة عدد كبير من الآلهة المختلفة, كلّ على حدة؛ و هذه الآلهة توفّر لأتباعها درجة من التركيز و الإلهام و الإدراك.
أما أتباع الديانة الهندوسية الأكثر شهرة و شعبيّة لمقاربة براهمان فهي “شيفا” Shiva و “فيشنو” Vishnu و الإلهة الأمّ Divine Mother. و يشبه هذا كثيراً التّقاليد الوثنيّة المتنوّعة في العالم الغربيّ حيث يلاحظ وجود العديد من الآلهة في الدّيانات الإغريقيّة و الرّومانيّة و السّلتيّة، و هذه الآلهة بمجموعها ما هي إلّا تجلّيات متساوية “للواحد الأحد”، و بالتّالي للكون.

ما تقدّم يمثّل تناقضاً صارخاً مع الأديان ذات الطّابع العَقَديّ الصّارم التي يعتنقها معظم النّاس في الغرب، و التي تعتقد بوجود إله واحد يُطلق عليه عادة إسم “الرّبّ” الذي يتصف بالوحدانيّة و الانفصال الكلّيّين، و بالتّسامي فوق كلّ شخص و كلّ شيء.

إضافة إلى ما تقدّم، تتمتّع الديانة الهندوسية بمقاربة فلسفية و فكرية قوية للحقائق و الوقائع الكونية. و أكثر ما يتبدّى ذلك من خلال التقاليد الروحية المعروفة بإسم “فيدانتا” Vedanta المبنيّة على مبدأ “الأوبانيشادس”.
و الوصف الذي يُطلق على هذه الحقيقة السّامقة الماورائيّة و العصيّة على الإدراك بحسب معايير “فيدانتا” هو “براهمان”، و هو براهمان نفسه الذي يُقاربه معظم أتباع الديانة الهندوسية من خلال أشكال و تدخّل آلهة مثل “شيفا” و “فينشو” و الأمّ الإلهية.
أمّا أهمّ مظهر من مظاهر التّجلّي الذي يظهر به “فيدانتا” على الإطلاق فيتمثّل في حقيقة أنّ “براهمان” يقطن في قلوب جميع البشر باعتباره الذّات الإلهيّة أو “الأتمان”، باعتبار أنّ الحقيقة المطلقة، أي “أتمان” و “براهمان” هما واحد لا يتجزأ. أتمان هو الروح البشرية؛ الروح التي لم تولد أبداً و لن تموت أبداً، و هي بالتّالي خالدة.

حسب تعاليم فيدانتا و تعاليم كافة المعتقدات الروحية، تعني الوحدانية التّماهي، تماهي كل شيء مع كل شيء، و هذه هي وحدة الوجود الكوني. هذا هو جوهر الحب الإيثاري الخالص، الذي يعني حرفياً “الحب المطلق”.

الهندوسية هي ثقافة متشعبة و موغلة في القدم، و هي إبداء كل مظاهر الإجلال للعديد من الآلهة المختلفة من خلال الأغنية و الرقصة و ممارسة الطقوس و من خلال الحقيقة الكونية المطلقة على شكل “براهمان” و حقيقة الروح الشخصية على شكل “أتمان”.
تعلّم المعتقدات الهندوسية الحقيقة المطلقة نفسها : أتمان و براهمان و الرب و الروح البشرية و النفس البشرية جميعها ما هي ألّا تجليات للواحد الأحد.

عن harka

شاهد أيضاً

خالد الفقيه يكتب: ناجي العلي، الريشة البوصلة والأسود الأبيض الكاوي

عقود مرت وأخرى ستليها لتؤرخ لنجاة ناجي العلي من ذل مرحلة لطالما أرقته وكان له …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

var x = document.getElementById("audio"); x.play();