إعلان هدنة

المصدر: صحيفة تشرين

عماد حطبة/الأردن

في مقال نشرته صحيفة «ساوث تشاينا مورننغ بوست» نقلت عن الناطق باسم وزارة التجارة الصينية جياو فنغ أن الصين والولايات المتحدة الأمريكية خاضتا محادثات مكثفة وجادة خلال الأسبوعين الماضيين في محاولة للوصول إلى تفاهمات تُنهي الحرب التجارية وتحقق الاستقرار للاقتصاد العالمي.
أكّد فنغ أن الطرفين اتفقا على إزالة جزء من التعرفات الجمركية التي فرضها الطرفان مؤخراً على التجارة بينهما، والعمل على إزالة المزيد من هذه التعرفات بشكل متزامن وتدريجي وصولاً إلى اتفاق نهائي بين الطرفين.. وبرغم جو التفاؤل الذي أشاعته تصريحات فنغ، إلا أن الوصول إلى الاتفاق المنشود ما زال بحاجة إلى المزيد من المحادثات، من دون سقف زمني واضح.
رغم الحماس الذي أبداه الطرفان الصيني والأمريكي للقاء المحتمل، الذي كان يُفترض أن يتم في العاصمة التشيلية سانتياغو خلال مؤتمر التعاون الاقتصادي الآسيوي– الباسيفيكي الذي كان من المزمع عقده في 16 تشرين الثاني الجاري، إلا أن الاضطرابات الشعبية في العاصمة التشيلية أدت إلى إلغاء المؤتمر، رغم هذا الحماس، إلا أن الصين أبدت فتوراً تجاه الدعوات لاستبدال ذلك اللقاء باجتماع قمة يعقد في ألاسكا أو آيوا، الحذر الصيني مردّه خشية الصين من أن التغير في موقف الإدارة الأمريكية ليس سوى مناورة داخلية، وأن اتفاقاً من مرحلة واحدة سيكون مفيداً لحملة إعادة انتخاب الرئيس ترامب.
هذا القلق الصيني يؤيده أكاديميون اقتصاديون من الولايات المتحدة يرون أن هذه الخطوات ستعزز ثقة أرباب الأسر، ما يدعم مبيعات التجزئة، وهو ما سينعكس على مجمل قطاع الأعمال وعلى البيانات المالية للشركات بعد شهور، أما نظراؤهم الصينيون فيرون أن إحجام الأمريكيين عن الإعلان عن الاتفاق أو تأكيد حدوثه، يشير إلى نية الولايات المتحدة التنصل منه في المستقبل.
عالمياً انعكس الإعلان الصيني بشكل إيجابي على الأسواق المالية، وارتفع مؤشر سوق هونغ كونغ بنسبة 0.6%، وسط توقعات بتعافي الاقتصاد الصيني من حالة التباطؤ التي أصابته نتيجة العقوبات الأمريكية. ويرى البعض أن ما تم التوصل إليه يعكس رغبة جدية لدى الطرفين في الوصول إلى اتفاق، ويستدلون على ذلك من شمول التكنولوجيا في هذه المرحلة، ولاسيما الهواتف والكمبيوترات. لكنهم يعتقدون أن الجدية الحقيقية ستظهر عند شمول منتجات توليد الطاقة، ولاسيما الطاقة الشمسية، التي تنتجها الصين، وعدّوا أن الصين أرسلت رسالة إيجابية إلى الولايات المتحدة من خلال الحكم على عصابة صينية تقوم بتهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والحكم على أحد أفرادها بالإعدام، هذا الموضوع كان من نقاط الخلاف المهمة بين البلدين، حيث دأبت الولايات المتحدة على الشكوى مما تسميه (تراخي) الصين في اتخاذ إجراءات رادعة ضد مهربي منتجات الفنتانيل المخدرة.
تبدو إدارة ترامب اليوم وكأنها بحاجة إلى أي إنجاز يدعم ترامب داخلياً في وجه محاولات الديمقراطيين لعزله، برغم أنه من غير المتوقع نجاحهم في محاولتهم، لكن الجميع يدرك أن ذلك لن يكون من دون أثر في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وخاصة لدى جمهور المحافظين التقليديين. في هذا السياق، توزع إدارة ترامب الرشا على مراكز القوى السياسية داخل الولايات المتحدة، فمن ناحية استهدفت قطاع الأعمال بإعلان هدنة في حربها التجارية على الصين لتحسين بيانات الشركات خلال الربع الأخير من السنة المالية، ومن ناحية أخرى قدمت رشوة للصقور من خلال الإعلان عن بقاء قواتها الاحتلالية في مراكز إنتاج النفط السورية، وإعلان مقتل «أبو بكر البغدادي»، والقيام بانقلاب عسكري خاطف وناجح ضد الرئيس البوليفي إيفو موراليس، مستفيدة من أخطاء محاولة مشابهة في فنزويلا، هذه رسائل مهمّة ترجو الإدارة الأمريكية من خلالها كسب بعض التأييد في أوساط كارتيلات النفط والأسلحة الأمريكية.
هذه الرشا تصطدم بحائط صد يحاول الحصول على أقصى ما يمكن أن تقدمه الإدارة الأمريكية الضعيفة، فمن ناحية تبدي الصين نوعاً من الممانعة تجاه عقد قمة ثنائية مع الولايات المتحدة من دون الحصول على نوع من الضمانات للاستمرار في اتفاقية رفع التعرفات الجمركية، والانتقال إلى المراحل المقبلة من دون شروط تعجيزية أمريكية. بعبارة أخرى تطالب الصين باتفاق إطار ذي جدول زمني يوضح متطلبات الانتقال من مرحلة إلى أخرى حتى الوصول إلى الاتفاق النهائي. ومن ناحية أخرى، يُبدي التحالف السوري– الروسي– الإيراني تصميماً على استكمال انتشار الجيش العربي السوري في المناطق الشمالية وفي الجزيرة السورية، وتبدي روسيا دعماً غير مشروط للجهود السورية في هذا المجال، أما إيران فقد أعلنت الانتقال إلى المرحلة الرابعة من تخفيض التزاماتها بموجب الاتفاق النووي في رد على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، بعد أن كانت قد منحت الطرف الأوروبي مهلة 60 يوماً لتفعيل الآلية المالية التي تضمن لها بيع نفطها، والحصول على العوائد المالية، كما أنها ردت على الوساطات الفرنسية والسويسرية بتمسكها برفع كامل العقوبات الاقتصادية قبل العودة إلى طاولة المفاوضات، وأنهت الأسبوع باسقاط طائرة تجسس انطلقت من البحرين، يعتقد أنها أمريكية أو «إسرائيلية».
في الحالات العادية، عندما تجد الولايات المتحدة نفسها محشورة في الزاوية نتوقع أزمة كبرى أو حرباً تلفت النظر، وتعيد ترتيب الأوراق (Wag the Dog) لكن المتابع لسياسة إدارة ترامب يملك كل الحق لتوقع المزيد من التنازلات والتراجع، لأن هذه الإدارة من أكثر الإدارات الأمريكية واقعية في العقدين الأخيرين، وهي تدرك أنها لم تعد اللاعب الوحيد في السياسة العالمية، إدراكنا هذه الحقيقة يجعلنا نفهم إصرار الصين وسورية وإيران وروسيا وفنزويلا على مواقفهم الجذرية، وكأن لسان حالهم جميعاً يقول «إنما النصر صبر ساعة».

عن harka

شاهد أيضاً

دوغين والجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة.

يعد ألكسندر دوغين من أهم أعضاء الفريق الاستراتيجي الذي يحيط بالرئيس الروسي، بوتين، كما يعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

var x = document.getElementById("audio"); x.play();