الرئيسية / آراء ومقالات / مذبحة قبيلة الجوازي بين الحقيقة والتزوير

مذبحة قبيلة الجوازي بين الحقيقة والتزوير

شاهدت فيديو على قناة “سكاي نيوز الاماراتية” – ربما أعدَّه بعض مُتلقي رواتبها من الليبيين – يربط بين تركيا والعثماني في ليبيا ، ليس هنا الأمر المهم ، الفيديو يتناول مذبحة الجوازي التي وقعت في يوم 5 سبتمبر من عام 1817 ، وينسبها الفيديو زورًا للعثمانيين ، ليصنع من خلالها سياق تاريخي مرتبط بالصراع الحالي بين أدوات ووكلاء وحلفاء الامبريالية في الغرب ، ويوظفها الاماراتي في خدمة المشروع الغربي مع تركيا الحالية حليفة الغرب.

المذبحة وقعت من قائد جيش القرمانلي أحمد بن يوسف القرمانلي – يوسف القرمانلي المشهور بحربه مع أمريكا والذي حدثت في عهده أسر السفينة الامريكية فيلادلفيا والتي نُقلت للتلفزيون في عمل حرب السنوات الاربعة وأدى دوره الفنان السوري أسعد فضة – وهو الذي تولى سلطة برقة لاحقًا ، والدولة القرمانلية كانت منفصلة على العثماني تمامًا كما هو حال دولة محمد علي في مصر ، فكيف يتم تزوير هذه الحادثة ونسبها للعثماني ، والحكم القرمانلي يومها عمره أكثر من مائة عام ، منذ أن خلع جد جده أحمد القرمانلي اخر الحكام العثمانيين في عهدهم الأول عام 1711.

رجوعًا لمذبحة الجوازي فيجب أن نعلم ان تاريخ القبائل هو مجموعة من الحروب والصراعات على الزرع والمرعى والماشية والماء – وهذا تاريخ البشرية جمعاء – الا ان للمذبحة أسباب سبقتها ، حيث شنَّت قبيلة الجوازي حروباً على منطقة بنغازي وضواحيها على قبائل العواقير والمغاربة – وهم ينتمون مع الجوازي لقبائل الجبارنة – وكذلك قبائل مصرات عام 1811 ، وحاصرتهم جُملة في بنغازي لمدة خمسة أشهر فيما عُرف هذا الحصار بـ “عقل خريبيش” ، وحدث أثناء ذلك معارك الزريريعية والمفلوقة ، حتى جاءت معركة سيدي الشريف وكانت اخر معاقل القبائل داخل بنغازي وهُزم فيها الجوازي ، لكن أغلب الظن ان هذه الهزيمة جاءت مع نجدة محمد باي القرمانلي ، الذي يعد الإبن الأكبر لباشا طرابلس يوسف القرمانلي وأشد أبنائه بطشًا.

تفيد بعض الروايات التاريخية إن الذي شجَّع قبيلة الجوازي للتسلط على بقية القبائل حتى قبائل خليج سرت وغزوهم ونهبهم هو تحالفهم مع أحمد القرمانلي أخ يوسف القرمانلي ، الذي عينه يوسف القرمانلي واليا على درنة عام 1809 رغم مابدر منه قبل ذلك ، عبر وساطات بريطانية ، وحيث أنه فعل ذلك بغير اقتناع فقد ولَّاه درنة لوحدها ، ولنواياه القديمة بحكم برقة او طرابلس كلها – ليبيا سابقًا – فقد دعم قبائل الجوازي الذي كان تربطه بهم علاقات نسب ، وهذا المبرر المنطقي الذي دفعه للهرب إلى مصر بعد أن وصل جيش ابن اخيه محمد باي ، كما هربت قبائل الجوازي إلى غرب مصر أيضًا.

لاحقًا بعد عودة محمد باي القرمانلي مَزهوًا بقمع هذا التمرد القبلي في المنطقة الشرقية ، أغتَّر بنفسه للدرجة التي تمادى فيها وحاول طعن والده في إحدى لحظات غضبه ، مما دفع والده إلى إبعاده للمنطقة الشرقية ويبدو ان والده كان يحبه جدًا حتى يجعله حاكما على المنطقة الشرقية بدل معاقبته على تعرضه له بخنجر مما أدى لقتل خادمة للباشا رمت نفسها أمام الخنجر دفاعًا عنه.

بعد أن طارد محمد باي قبيلة الجوازي رجعت من جديد مابين عامي 1812 ، وعام 1815 ، وهو العام الذي وصل فيه محمد الباي واليًا لبرقة قبل أن يُقيم تمردًا بين عامي 1815 ، 1816 على سلطة والده من خلال قبائل الجوازي نفسها ، وحينها قرر يوسف القرمانلي وضع حدًا نهائيا لإبنه البكر وأرسل له جيشا بقيادة أصغر أبنائه يومها أحمد القرمانلي ، الذي أستطاع ان يهزم أخيه الذي فرّ هاربا لمصر ، بينما قامت قبيلة الجوازي بمحاولة استرضاء يوسف القرمانلي بإرسال إثنان وعشرين فردا من أبناء القبيلة ليبقوا رهائن في طرابلس ، لتأكيد نيتها هذه المرة بعدم الخروج على حكمه مرة أخرى ، خصوصا وانها راسلت القرمانلي قبل وصول جيشه وانفصلت عن ابنه ، لكن ماكان القرمانلي ليثق بهم مرة أخرى لذلك عمل إبنه أحمد على تقريب مشائخهم لجواره ، ليطمئنوا له ويَبقوا قُرب عينيه ، خصوصًا ، وان الأنباء التي كانت قادمة من مصر تقول عن عزم أخيه الأكبر للعودة إلى برقة بدعم من والي مصر ، وربما سوف يسعى في حربه من خلال هذه القبيلة المتمردة الفاقدة لإمتيازاتها السابقة.

من هذا السياق التاريخي قرَّر أحمد القرمانلي العزم على قطع شوكة قبيلة الجوازي نهائيًا ، فبعد أن قرَّبهم لمجلسه ، واحاطهم برعايته ، دعا مشائخ وأفراد القبيلة من خلال “جاويش” من أبناء قبيلة الجوازي – حتى يطمئنوا لنوايا الدعوة – والذي كان ملتحقًا بخدمة الباي في طرابلس ، حاملًا رسالة لهم ، تُفيد بتشريفهم إلى بنغازي لحضور حفل يقيمه الباي أحمد لتوزيع البرانيس الحمر على مشائخهم عرفانًا من يوسف القرمانلي لولائهم له والدخول في طاعته.

وفي اليوم الخامس من سبتمبر ، جاء مشائخ قبيلة الجوازي لمدينة بنغازي ، إذ حضر 45 شيخًا ، لقصر الباي ، حيث أستقبلهم بترحاب كبير ، وشرب معهم القهوة ، قبل أن تفتح الأبواب من الحجرات المجاورة ويخرج منها مماليك الباي وقتلوا البعض منهم ، وأعتقلوا البقية ليكملوا عليهم تقتيلا الواحد تلو الآخر ومن حاول الفرار بالقفز من شرفات القصر العالية ، قتله الحراس المحيطين بالقصر ، ثم هاجم جنود الباي مضارب ونجوع القبيلة التي غادرها الكثير من أبنائها نتيجة وصول أخبار مقتل مشائخهم ، والبلبلة التي حدثت بين جنود الباي بعد المذبحة المُريعة ، منحت الوقت لهرب الكثير من أبناء القبيلة ، وأمَّا الأبناء الرهائن فقد تم قتلهم كلهم.

تلت هذه الحرب ، حروب قبلية أخرى ، أبعدت قبائل أخرى لمناطق غربية ، وأبتعدت قبيلة المغاربة عن منطقة بنغازي إلى مابعد منطقة المقرون الواقعة بين أجدابيا وبنغازي حتى تصل مناطق خليج سرت ، وبقيت قبيلة العواقير.

هذه مذبحة قبيلة الجوازي بإختصار التي تناولها المؤرخين الغربيين وبعض الليبيين عرضًا او تقريرًا وتحليلًا ، فهي حدثت في عهد الحكم القرمانلي ، الذي لم يكن حكما عثمانيا ولا تابعا لسلطة الباب العالي ، وكان يتخد سياسته الداخلية والخارجية بشكل منفرد ، بل أحمد القرمانلي مؤسس هذه الدولة ، عندما وصل للحكم أقام مجزرة شبيهة لمجزرة الجوازي لقادة الإنكشارية وكبار جندهم ، وقرّب العرب بدلا عن العثمانيين ، وجعل من قبيلة المحاميد العربية سلاحه وشوكته وحافظ المحاميد على ولائهم للأسرة القرمانلية وكانت من رسائل غومة المحمودي للباب العالي ، عندما رفع عصا الطاعة في ثورته على العثمانيين في عهدهم الثاني ، هو تسليم الحكم لحفيد القرمانلي ، حيث بجَّل حكمهم ، وعظَّم عهدهم ، وكانت من وصية أحمد باشا القرمانلي لإبنه محمد الذي أستخلفه على الحكم أن يحفظ وده وعهده للمحاميد الذين ساعدوه في حكم طرابلس ، ثم كيف حاربت سفن طرابلس لوحدها الحملات الأمريكية إذا كانت تُحكم من الباب العالي ، ولماذا أرسلت أوروبا أساطيلها البريطانية والفرنسية إلى يوسف القرمانلي وتهديدها له عندما ضاقت ذرعًا بمهاجمته لسفنها ، بدلا من أن تراسل وتهدد السلطان في الآستانة.

الاماراتي والسعودي في صراعه الحالي على الوكالة الغربية مع الاخوان والقبائل التي تشاركها الصراع المحلي بدعم الحليف التركي أو القطري ، الذي تفجر بعد ان تشاركوا ضرب ليبيا مع الناتو ، ومشاركة غرف عمليات الأمريكي في تمويل الميليشيات الجهادية وتسليحها في سوريا ، وتعاونهم في التحالف ضد اليمن ، يريدون صُنع تاريخ يناسب دورهم الوظيفي لصالح الغرب ، لتفتيت وتفجير المجتمع الليبي وتناقضاته بشكل أكبر ، بالقدر الذي يخدم مشروع النهب الغربي ، ويبعد شبح الاخوان عن أداء دور سلطة هذه الكيانات الحالي ، لكن من المفارقة هنا ، ان قبيلة العواقير التي شاركت القرمانلي وتحالفت معه في قتال قبيلة الجوازي ، هي ذاتها من تتسلح من الاماراتي الذي يُزوّر التاريخ هنا من خلال إعلامه.

أخشى أن يغلب سياق مذبحة الجوازي والفيديو الذي نشره الاعلام الاماراتي في إخفاء طبيعة الحرب اليوم في ليبيا ، ولابد من تذكير الجميع إنها حرب المركز الرأسمالي وهيمنته على بلادنا ، هذه هي طبيعة الحرب الحقيقية ، وليست حرب تركيا ومصر ، فلا تركيا امبريالية حتى تملك مشروع هيمنة منفرد بعيدا عن ظل دول الناتو وتوظيف أمريكا لمشروعها ، ولا مصر اليوم تمتلك سيادة واستقلال حقيقي والتي لم تقاطع قطر حتى قرَّرت كيانات صغيرة كالإمارات او بلد تابع كالسعودية ذلك ، فالإعلام لكونه دعاية في أصل وظيفته ، ولكون الاعلام العربي اليوم تابع لكرتونات عربية تابعة للغرب ، فهو يحاول توظيف تاريخ بعيد عن سياق الصراع الحالي لصالح الهجمة الغربية على بلادنا.

عن harka

شاهد أيضاً

دوغين والجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة.

يعد ألكسندر دوغين من أهم أعضاء الفريق الاستراتيجي الذي يحيط بالرئيس الروسي، بوتين، كما يعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

var x = document.getElementById("audio"); x.play();