كارلوس شهاب/ العراق
منذ صعود الضباط الأحرار لثورة يوليو في عام 1952 إلى سدّة الحكم، كانت رؤيتهم كثورةٍ وطنيّة تنحصر في تصفية الاقطاع من خلال قانون الاصلاح الزراعي وكذلك تصفية الوجود العسكري البريطاني الفعلي على الأراضي المصرية. ولكن عند زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس وتلويحه بما عرف بـ «هراوة أسوان»، أي بعدم مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية في تمويل السد العالي بحجة ارتباطها باتفاقية مصالحٍ مع بريطانيا وفرنسا منذ عام 1950، وذلك بالتواطؤ مع البنك الدولي للإنشاء والتعمير.
من هنا، بدأت تتضح لعبد الناصر ورفاقه الصورة الأشمل للصراع، حيث أن الغرب لا يمنح سوى الاستقلال الشكلي بينما يبقى في الكواليس ليجذب الخيوط الاقتصادية ويحركها. ولطرد الغرب من هذه الكواليس، كان على عبد الناصر ورفاقه أن يُنهوا السيطرة الامبريالية الاقتصادية المتمثلة في شكلها الأساس بشركة قناة السويس.
في العام 1875، اشترى رئيس الوزراء البريطاني بنيامين ديزرائيلي أسهم الخديوي اسماعيل في قناة السويس بمبلغ أربعة مليون جنيهٍ استرليني، دفعها مكتب آل روتشيلد في لندن، ولم يكن هذا الشراء الذي قامت به الحكومة البريطانية ممثلة بديزرائيلي على غير أساس، بل تم اعتبار أن هذه الأسهم هي ما سيشق طريق الجنود البريطانيين إلى مصر. وبعد مضي سبع سنواتٍ، صار ذلك واقعاً، فقد جلبت المليونات الأربع هذه فوائداً خياليةً للامبراطورية البريطانية بينما استحالت إلى قيدٍ كبّل مصر طيلة ثمانية عقود.
كانت «الشركة العامة لقناة السويس البحرية»، والتي كان مقرها في باريس، من أضخم المنشآت الدولية، وتتمثل في مجلس إدارتها رؤوس الأموال الفرنسية والبريطانية والأمريكية موزعةً بطريقةٍ تظل معها الكلمة الحاسمة للسياسيين اللندنيين، بحيث لم تفلت بريطانيا سيطرتها على القناة منذ عهد ديزرائيلي وكانت تعتبرها أهم أداة سياسية في الشرق الأوسط، إذ كان يمر عبر القناة سدس مجموعة المنقولات البحرية العالمية، وربع دورة التجارة الخارجية البريطانية، وثمانية بالمئة من دورة التجارة الخارجية الفرنسية، وجانب كبير من مشحونات النفط الأمريكية.
بناءً على ما تقدم، كانت شركة القناة تعرف بـ «دولةٍ داخل دولة»، فقبل العام 1952، لم يحدث أن اعتمد البلاط الملكي أية حكومةٍ مصرية قبل أن تدلي الشركة بكلمتها في هذا الصدد، وكان ملوك مصر ورؤساء وزرائها ينصاعون لهذه الكلمة. كما كان العديد من أفراد حاشية البلاط وكبار الملاكين المصريين ممثلين في مجلس إدارة الشركة، كشكلٍ من تجسيم دور الشركة على أمور مصر، بحيث تصبح هذه الفئة خادمةً للامبريالية ومنفذةً لسياساتها. وكانت الشركة تحصل على عائدٍ صافٍ وصلت قيمته إلى 33 مليون جنيهٍ استرليني في العام 1955، وقد حصلت مصر منها على 4 ملايين فقط.
ولكن بعد أسبوعٍ من خطوة جون فوستر دالاس، والتي سُميت بهرواة أسوان، أطل عبد الناصر في مثل هذا اليوم من عام 1956، من شرفة بورصة القطن، معلناً تأميم شركة قناة السويس.
يمثل هذا القرار أكبر التغيرات الجوهرية في وعي عبد الناصر ورفاقه، وخاصةً في ما يخص تطوّر فكرتهم عن الثورة وعن الصراع الذي بدأ يأخذ منحىً تصاعدياً مع الامبريالية، إذ كانت شركة قناة السويس، ولمدة مائة عام، مردافةً لسيطرة الغرب الشاملة المعلقة فوق رقبة مصر كشفرة مقصلةٍ مُعدة للهبوط ما إن تتعرض المصالح الغربية لخطر، ولم يكن أحدٌ يستطيع استبعاد العواقب الوخيمة التي من الممكن حصولها من جراء التوجّه ضد المُلكية الأجنبية لقناة السويس، إذ كان يمكن للوجود العسكري الذي رحل لتوه أن يعود في أية لحظة.