الرئيسية / آراء ومقالات / دوغين والجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة.

دوغين والجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة.

يعد ألكسندر دوغين من أهم أعضاء الفريق الاستراتيجي الذي يحيط بالرئيس الروسي، بوتين، كما يعد من أهم الاستراتيجيين الكبار في (لعبة الأمم).

وإذا ذهب البعض إلى أن جورج فريدمان الأمريكي اليهودي، هو تلميذ عقل الإمبريالية الراحل، بريجنسكي، فإن دوغين في روسيا يتقدم عليه بمرجعياته الفلسفية والجيوسياسية.

ألكسندر دوغين، أستاذ استراتيجيات يتقن عدة لغات، ويجمع بين تعاطف كبير مع الموروث الروسي السلافي الأرثوذكسي والروحاني وماركسية أو بلشفية خاصة، وبين نظريته الأوراسية العابرة للمكونات الروسية الضيقة.

في الكتاب الذي بين أيدينا لدوغين (الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة) يقدم دوغين أفكاره التي باتت اليوم من أبرز عناوين الصراع على شكل العالم الجديد، والتي بدورنا سنلخصها ضمن المقاربات التالية:

1. مقاربة حول المشهد الروسي والمطولب روسياً.

2. نقد نظريات الحداثة وما بعدها كمرجعية من مرجعيات الليبرالية الجديدة.

3. الأرواسية كحل عالمي ضد العولمة الأمريكية.

4. الآفاق.

1. مقاربات حول المشهد الروسي

نبدأ مع نقد دوغين للغورباتشوفية وغورباتشوف الذي وصفه بالخائن المرتد، النذل الذي جلب الخزي والعار، وساهم بتدمير دولة عظيمة وجعل العالم بأكمله تحت نعال الدكتاتورية الأمريكية.

ومن مظاهر تلك المرحلة، بحسب دوغين، أنه بدد كل ما راكمه الروس خلال الحقبة السوفياتية وحوّل روسيا إلى مجرد مورد للمواد الخام، نفط، غاز ومعادن، فضلاً عن تفريغ الريف من القوى المنتجة.

وكذلك اتفاقية الصواريخ البالستية التي وضعت روسيا تحت رحمة الأطلسي وهي السياسات التي قادها في الحقل الاقتصادي إيغور غايدار وبوروفوي (حزب الخيار الغربي).

أما في الحقل السياسي – الاجتماعي – الإعلامي،خلال المرحلة المذكورة وبالإضافة إلى الخاصرات الأمنية في القوقاز وغيرها (يسميها الأحزمة الصحية) فقد تمثلت الاختراقات الأمريكية فيما أسماه مقاطع الشبكة الأمريكية التي تغللت في كل المنظومات الروسية، الاقتصادية والإعلامية، عبر الجماعات البرتقالية والصناديق (الإنسانية) واختطاف المجتمع المدني، وعبر الجماعات الانفصالية وشبكات المافيات وغطاءات أخرى، مكتبات، نقاط طبية، شركات تأمين وسياحة.

كما توقف دوغين عند أداتين غير منظورتين للجميع، وهما المثلية والتبشير البروتستنتي في الوسط الأرثوذكسي الروسي كما توقف عند تسخيف رموز ثقافية وسياسية وتحويلها إلى مواد إعلانية وعلامات تجارية للتبغ والنبيذ.

مقابل ذلك، يبدأ دوغين هجومه النظري على الاختراقات الأمريكية بالتأكيد على أن البيئة الروسية الاجتماعية – الثقافية عصية على الليبرالية منذ العهد القيصري، مروراً بالعهد السوفياتي وانتهاءً بالمعطيات الراهنة وآفاقها.

ويدعو انطلاقاً من ذلك لثورة جيوسياسية ويطالب روسيا بتعزيز قدراتها النووية وتعميم الردع النووي ووضعه بتصرف دول مثل إيران والهند والعالم العربي.

ويرى أن الردع النووي هو الورقة الاستراتيجية الأساسية بيد الروس الذين عليهم أن يخاطبوا الغرب بالقول (في حال إنكم تحدثتم معنا بطريقة الأرقام الرأسمالية في الاقتصاد الناجمة عن نهب العالم، عليكم أن تعرفوا ماذا بإمكاننا أن نفعل بكم جميعاً)

أما بشأن الاقتصاد الروسي نفسه (2004) فيقسمه إلى ثلاث تشكيلات: الأولى، تقليدية من حيث الصناعة والزراعة حيث ينبغي أن لا تقارب من زاوية الدورة القصيرة للأرباح والخسائر، بل من زاوية الطابع الإنتاجي وما يرتبط به من ثقافة روحية تشكل مفتاح الهوية الوطنية.

والثانية، تشكيلة النمط الصناعي الحديث، والثالثة، تشكيلة الاقتصاد ما بعد الصناعي، وهو ما يتطلب تطوير تقنيات ما بعد الحداثة وبحيث تكون في خدمة الدولة وليس العكس، كما يتطلب العمل على التكامل الإقليمي وإصدار عملة موازية للدولار على غرار اليورو.

إضافة للمقاربات السابقة يولي دوغين أهمية بالغة لما يسميه الجغرافيا السياسية للغاز (ص315) والتكامل الأوراسي مع قوى مثل الصين وإيران والهند

2. نقد نظريات الحداثة وما بعدها كمرجعية من مرجعيات الليبرالية الحديثة

قبل الحديث عن مقاربة دوغين لهذه النظريات يستحسن التوقف عند مقاربته لعقلها وبالأحرى إلى لا عقلها، ومفكري ما بعد الحداثة، حالة من التشتت والتشظي ضد كل بنية، بناء فوقي مستقل، أشبه بسعر الأسهم في بورصات غير مستقرة، مروجون للشذوذ كما بودريار، وأقرب إلى المقاربات العبثية الفوضوية كما دولوز.

ومن الذين يرى فيهم صورة عن الضياع النظري، أنطونيو تيغري ومايكل هارت في كتابهما (الإمبراطورية) الصادر عام 2000 وهما أقرب إلى ظاهرة (اليسار الجديد) الذي يطلق النار على الإمبريالية بمسدساتها.

صحيح أن (الإمبراطورية) الجديدة هي الشكل الجديد (للرأسمال) المعولم ما بعد الحداثي، والشكل الجديد لهيمنة ونفوذ وقوة غير مرئية، لكنها بقدر ما تبدو شبحية شديدة التأثير بقدر ما يبدو معارضيها أشباحاً بلا تأثير.

هذا عن مفكري ما بعد الحداثة، أما عن بيئتها فإنه وبحسب دوغين، مقابل الإمبراطورية والمجاميع الطائفية والعلاقة الهرمية بين الأفراد في حالة ما قبل الحداثة، تميزت الحداثة بالدولة – الأمة والمجتمعات المدنية، والعلاقات الأفقية (المساواة الشكلية) في الحقوق بين الأفراد

أما ما بعد الحداثة المعولمة فما يميزها هو العالم أحادي القطب وتركيز الأسلحة النووية بيد واشنطن، والعولمة والليبرالية المفرطة، والمجتمع المفتوح، والشذوذ واللاجنس (المثلية).

ويتوقف دوغين عند ما يسمى بـ(الأنثروبولوجيا السياسية) التي تخلط الإنسان بالفرد بل تلغي الأول لصالح الثاني، وتتصرف مع البشر على طريقة جون لوك (صفحات بيضاء) برسم الشحن بالثقافة الإمبريالية. فالمواطن في هذه الأنثروبولوجيا، هو الفرد وليس الإنسان، وحقوقه مجرد أوراق ثبوتية بلا أبعاد ثقافية وروحية.

إلى ذلك، فعن مفهوم الجماهير في حالة ما بعد الحداثة الإمبريالية ينطلق من الجماهير المتلفزة الافتراضية، فهي موضوع لا ذات ومتلقية وأسيرة لشاشة (الأخ الأكبر) وفق تعبير للروائي الإنجليزي، أورويل.

إنها كتلة من العطالة أقصى ما تستطيعه تدوير ما يضخ لها من خطابات هابطة، راهنة أو من الماضي، إنها أقرب إلى الجماهير الافتراضية المحرومة من الأنطولوجيا (الوجود)، وإذ تعتقد أنها تبصر فهي تلغي نفسها وتذوب في المسوق الشبكاتي.

3. الأوراسية كحل بديل للعولمة الأمريكية

بعد أن يتعرض دوغين لأبرز نظريات ومنظري الجغرافيا السياسية مثل الألماني راتزل، والبريطاني ماكندر، (من يسيطر على الهارت لاند أو قلب اليابسة الأرواسية يسيطر على العالم) ومثل الأمريكي ماهان وكذلك سبيكمان (من يسيطر على الأطراف البحرية لليابسة يسيطر على العالم). يضيف لهم النظرية الجديدة (ت. بارنت وثلاثيته: النواة العولمية The core، ومناطق الاتصال العالمي، ومناطق الفشل Gap (الفجوة)). وتناقش الأخيرة من زاويتين مختلفتين: هنتنغتون بوصفها فجوة قابلة للاتساع في سياق (صراع الحارات)، وفوكوياما بوصفها فجوة برسم الاضمحلال من تلقاء نفسها.

ثم يدخل دوغين في نقاش المشاريع القائمة وعدم ملائمتها أو قدرتها على تحدي العولمة الإمبريالية، مما يستدعي ويجعل من الأوراسية كمشروع روسي هي الحل البديل:

أولاً: كظاهرة عالمية معادية في طبيعتها للعولمة الأمريكية وليس كظاهرة روسية، بل إن روسيا نفسها لم تكن يوماً مشروعاً عرقياً بقدر ما كانت محصلة سلالات وأقوام وثقافات عديدة سلافية وتتارية وتركية

وانطلاقاً من ذلك يخاطب الأوكرانيين الذين عليهم أن يدركوا أن عملية التكامل الأوراسي مع روسيا ليست روسنة بل تأكيد وإظهار لخصوصيتهم في إطار الأوراسية.

ثانياً: كثنائية لليابسة والبحر تدحر الوحش البحري الأحادي (الإمبراطورية الأمريكية)

ثالثاً: كظاهرة ايديولوجية ثقافية فلسفية (بلشفية القرن الحادي والعشرين).

رابعاً: كامتداد لفضاء العالم القديم الغني بالحضارات والمعتقدات، والمرادف للحضارة الثقافية مقابل العالم الجديد الأمريكي المصنّع.

خامساً: كغطاء مفتوح على القوى الإقليمية الصاعدة مثل الهند وإيران.

سادساً: كإطار لنظام عالمي جديد متعدد المراكز.

إلى ذلك، فالأوراسية في الاقتصاد طريق ثالث يمكنها الاستفادة من كينز وشومبيتر وفرانسوا بيرو ، كما تحتاج في السياسة إلى أساتذة كبار في الجغرافيا السياسية، لا إلى التكنوقراط أو البيروقراط وقبل ذلك، لا أرواسية بلا رافعة معرفية وذائقة ثقافية وابعاد روحية .

فالمطلوب بحسب دوغين مبدعين أوراسيين يبحثون عن الكأس المقدسة وتحريرها من الشيطان الأمريكي. وإذا كان ثمة نهاية للتاريخ، فهو نهاية التاريخ الأمريكي المعولم عبر ميكائيل الأوراسي، وهو ينقل الميزان من يد التاجر إلى اليد الميكائيلية الروحية الجديدة.

*- نقلا عن الميادين نت

عن harka

شاهد أيضاً

بيان صادر عن حزب الحركة القومية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

var x = document.getElementById("audio"); x.play();