الرئيسية / آراء ومقالات / أدب وفكر / ثقافة وأدب / التراث بين الأصالة والحداثة، التراث الفلسطيني نموذجاً

التراث بين الأصالة والحداثة، التراث الفلسطيني نموذجاً

تغريد سعادة – فلسطين

 

تتمحور الأسئلة التي تجتاح التراث العربي عامة حول سياقه في وجود المجتمعات ومدياته في تحولاته الاجتماعية العريضة، خاصة ونحن جزء محوري من هذا العالم المتغير، حيث يواجهنا السؤال الأهم حول ماهية الأصالة والحداثة، فهل هما متداخلتان أو متقاطعتان أو متفارقتان ؟ وما دور التراث في ذلك؟ .

فالأصاله تعني العودة الى أصل وجوهر الموروث الإبداعي والتعاطي معه لابتكار رؤية تعتمد على جوهره مشوبة بالابتكار غير التقليدي.

 

أما فيما يخص الحداثة فيمكننا القول: إنها مجموعة الأساليب التجديدية التي تحقق رؤيتها الفكرية في الشكل والمحتوى، حيث يشكل التراث هوية الشعوب ويرتبط بثقافته وعمقه التاريخي والحضاري. والتراث الفلسطيني لا يعني فقط هوية الشعب وإنما له بعد آخر في صراعه مع الاحتلال الذي طالما حاول طمس هويتة وسرقتها. ولطالما عرف الفلسطيني أن تراثه هو جزء مهم من تاريخه وأرضه وكيانه وشخصيته التي تمتد لآلاف السنين، ولذلك فإنه يحافظ عليه من الضياع والاندثار في ظل وجود الاحتلال الذي يحاول أن يسرق هذا التراث وينسبه لنفسه.  وهذه المعركة جزء من القضية الفلسطينية الكبرى التي يقاوم لأجلها الشعب الفلسطيني بأكمله، ولذلك يعمد الفلسطينيون إلى الحفاظ على تراثهم وإحيائه قدر الإمكان، من خلال لبس الكوفية التي ترمز للنضال عنده، والثوب الفلسطيني المطرز، ومن خلال الدبكة الشعبية الفلسطينية التي تؤكد خطواتها على الثبات والتمسك بالأرض. ويعزز هذا التراث الروابط ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، ويمثل جزءاً محورياً من معركة وجوده.

فالكوفية الفلسطينية ارتبطت  باللونين الأبيض والأسود ، وقد  إنتشرت في العالم لتاريخها ورمزيتها وارتباطها بنضال الشعب الفلسطيني. وحسب التراث الشعبي الفلسطيني فقد اعتاد الفلاح الفلسطيني أن يضعها على رأسه أثناء العمل في الأرض لتقيه حر الشمس وبرد الشتاء، في وقت كان يلبس ابن المدينة في فلسطين الطربوش. وارتبطت الكوفية بمقاومة أهل فلسطين للاحتلال البريطاني وبرزت لدى اندلاع ثورة فلسطين في عام 1936م حين تلثم الفلاحون المقاومون بالكوفية لإخفاء ملامحهم أثناء قتالهم ضد الاحتلال البريطاني، والعصابات الصهيونية. وفي حينها ارتبطت الكوفية بالثائر ضد الاستعمار. واستطاعوا خلال الثورة أن يقضوا على الجواسيس في معظم المناطق، وقامت السلطات البريطانية بملاحقة كل من يلبسها. ولذلك أصدر الثوار أمراً في آب 1939 لأهل المدن الفلسطينية بنـزع الطربوش ولبس الكوفية والعقال، وذلك إعلاناً للتضامن التام مع الثوار ورمزاً لكون الجميع ثواراً. وما أن صدر الأمر حتى سارع أهل فلسطين إلى الاستجابة فزال الفارق بين الثوار وغيرهم، وزال الطربوش نهائياً، مما أدهش السلطات البريطانية التي فوجئت أن شعباً بكامله ينزع لباس رأسه، الذي هو من تقاليده الموروثة أيضاً.

ومنذ انطلاق الثورة الفلسطينية في الستينيات من القرن الماضي، استخدمها الفلسطينيون للتعبير عن العمل الفدائي. واقترنت الكوفية عند شعوب العالم أجمع باسم فلسطين وجهاد شعبها ضد الاحتلال، واصبحت رمزاً لقضية فلسطين العادلة، بكل محطاتها في مقاومة الاحتلال. وهي كانت ولا زالت حاضرة في جميع الأنشطة الاجتماعية والثقافية والسياسية دولياً وعربياً على جميع مستوياتها وأقاليمها لتكون بلا منازع أبرز إشارة مرتبطة بقضية فلسطين. وكان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يرتدي الكوفية على شكل خارطة فلسطين. وأصبحت رمزاً لعرفات كشخص وزعيم سياسي يعبر عن القضية الفلسطينية. كما لم يقتصر لبس الكوفية على الرجال فانتقلت منذ الستينيات من القرن الماضي لتضعها المرأة حول عنقها أو على رأسها، وظهرت الكثير من المناضلات الفلسطينيات موشحات بالكوفية. وأصبحت الكوفية حتى الآن رمز النضال عند الرجال والنساء. ويحرص الفلسطينيون على لبسها في المظاهرات ضد الاحتلال في كل المناطق الفلسطينية، وفي المناسبات الوطنية والشعبية وفي الاحتفالات العالمية والعربية، كما يحرص الداعمون للقضية الفلسطينية في العالم على ارتدائها في المظاهرات في بلدانهم تضامناً مع القضية والحقوق الفلسطينية. وعادة ما يضع الفلسطينيون على شهدائهم الذين سقطوا خلال المظاهرات والاشتباكات مع الاحتلال… يضعون- رجالاً ونساءً- الكوفيةَ لتغطية الرأس ليؤكوا رمزيتها للنضال.

أما الثوب الفلسطيني فهو جزء من ثقافة الشعب الفلسطيني وتراثه الشعبي على امتداد وجوده في فلسطين. ويفخرالفلسطينيون بثوبهم الفلسطيني المطرز بألوان مختلفة، وتختلف فيه النقشات والزخارف والتصاميم المستخدمة من مدينة فلسطينية إلى أخرى. كما يختلف التراث في المناطق الجبلية عنه في المناطق الساحلية والصحراوية فكل منطقة لها تراثها الخاص. وتحرص الفلسطينيات على ارتدائه في المناسبات والأفراح والتجمعات الوطنية والشعبية. ولا زالت ليلة الحناء الليلة التي تسبق حفلة الزفاف من أكثر ما تتميز  فيها العروس بفستاها التقليدي والاحتفال بالطقوس التراثية، باستخدام الحناء والرقصة الشعبية الخاصة على الأغاني التراثية حتى وقتنا الحالي.

وقد انتشر الثوب الفلسطيني في العالم بسبب تشرد شعب فلسطين في أرجاء العالم، فحاولوا الحفاظ على الإرث الخاص بهم والذي يؤكد على هويته ووجوده.

وحاول الاحتلال في العقود المنصرمة تسجيل أثواب فلسطينية باسمه في الموسوعات العالمية، ولكن تم إنصاف الثوب الفلسطيني بعد معارك مضنية في المؤسسات الدولية. وأصبح للثوب الفلسطيني بعد آخر للنضال وإبراز الهوية.

ويرى باحثون أن الثوب الفلسطيني يعود إلى العهد الكنعاني أي قبل 3000 سنة، فلقد وجدت بعض الصور والرسومات التي طرزت بها ملابس ملكات الكنعانيين على نفس أشكال التطريز الموجودة حالياً، إضافة إلى استخدام خيوط الحرير.

ويعتقد الباحثون أنه يمكن ملاحظة تأثير الحضارة الكنعانية على الثوب الفلسطيني من خلال رسومات الثعابين والشجر التي كانت جزءاً منها، كما غلب على الثوب اللون الأحمر نسبة إلى كنعان التي تعني أرجوان، وتختلف درجاته من مكان لآخر، فثوب غزة يميل إلى البنفسجي، أما الخليل فإلى البني، وبيت لحم ورام الله ويافا يميل إلى اللون الأحمر الخمري، وبئر السبع إلى الأحمر المائل للبرتقالي.

والثوب الفلسطيني يوجد بلونين، الأسود والأبيض، وعادة ما يستخدم الثوب الأسود للعمل اليومي وتكون التطريزات عليه بسيطة وخفيفة غير متكلفة، بعكس ثوب الاحتفالات والمناسبات الاجتماعية الذي يشتهر بغزارة الرسومات والنقوش.

وتختلف بعض التفاصيل البسيطة في الملابس بحسب المواسم والفئة العمرية والحالة الاجتماعية للفتاة سواء كانت متزوجة أو عزباء أو أرملة، فمثلًا ترتدي المطلقة اللون الأزرق تعبيراً عن الحزن وفراق الزوج، بينما ترتديه المرأة العزباء تعبيراً عن انتظارها لزواج، لكنه يكون فاتحاً وكثير الزخارف. والأرملة تلبس ثوباً أسود مطرزا باللون الأخضر، أما المتزوجة فيميل التطريز إلى التنوع في الألوان مثل الأحمر القاني والبرتقالي والأصفر الكموني وتكون أثوابهن فضفاضة وواسعة، إضافة إلى الشداد أو الحزام الذي كانت ترديه المرأة حول الخصر، ويكون عادة الحزام به حجر أبيض ، وهو يدل على أن المرأة تعيش حياة سعيدة مع زوجها، وإن خلعته فهذا يعني أنها مطلقة.

ومؤخراً في العقود الأخيرة أدخل التطريز الفلسطيني إلى الأثاث المنزلي والملابس اليومية وفساتين السهرة وقطع الحلي بهدف نشره على أوسع نطاق ممكن، وهي منتشرة في بيوت اللاجئين الفلسطينيين في أماكن وجودهم. وتطور ليصبح حرفة تنتشر فيه الكثير من المحال التجارية في المدن الفلسطينية وفي المهاجر التي تتخصص ببيع كل المنتوجات المطرزة. ولا زال الفلسطينيون يحرصون على اقتنائها في بيوتهم من باب الحفاظ على الهوية الفلسطينية.

أما الدبكة  فهي من أهم التراث الفني الفلسطيني الذي يحرص الفلسطينيون على أدائها في كل المناسبات الوطنية والشعبية. ورغم أن الدبكة كانتوقبل عام 1948 تمارس في المناسبات الاجتماعية احتفالًا بالأعراس والأعياد، إلا أنها بعد عام 1948، أصبحت شكلاً من أشكال مقاومة الاحتلال، والنضال الوطني الذي يمارسه الشعب الفلسطيني في وجه الاحتلال الإسرائيلي.

وتشكلت عشرات الفرق المحترفة للدبكة والمنتشرة في القرى والمدن الفلسطينية في وقتنا الحالي، وتجذب قطاعات كبيرة من القتيان والقتيات للمشاركة فيها إيماناً من الشعب الفلسطيني بالحفاظ على الموروث الثقافي والفلكلور الشعبي الفلسطيني الذي يعتبر التراث هو الهوية والجذور الضاربة في التاريخ.

والدبكة رقصة فلكلورية يقوم الراقصون فيها بضرب الأرجل على الأرض، والتي تعني الثبات والصمود، وتتكون الفرقة من مجموعة دبيكة وعازف اليرغول أو الشبابة أو الطبل. ويعتبر الفلسطينيون أن الدبكة فن يعطي إحساساً ببعد مختلف لحب الوطن والنضال من أجل حريته، باستخدام كلمات بسيطة تؤكد علاقتهم بالأرض وتعبر عن معاناة الفلسطينيين ونضالاتهم وكفاحهم.

ومن أهم اللوحات التي تؤديها الفرق المنتشرة، لوحة الأرض والفلاح ولوحة العرس الفلسطيني ولوحة الدلعونا والدحية التي ترتبط بتراث الفلسطينيين ارتباطاً وثيقاً. وتحرص الفرق على المشاركة في الاحتفالات الشعبية والوطنية كما تعمل على نقل الفن إلى المحافل الدولية والعربية. وقد لاقت رواجاً يشد إكل شعوب العالم على اختلاف لغاتها وثقافتها، ورمزاً للشعب الفلسطيني ونضاله ووجوده.

عن harka

شاهد أيضاً

خالد الفقيه يكتب: ناجي العلي، الريشة البوصلة والأسود الأبيض الكاوي

عقود مرت وأخرى ستليها لتؤرخ لنجاة ناجي العلي من ذل مرحلة لطالما أرقته وكان له …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

var x = document.getElementById("audio"); x.play();